Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

الطبيب الّذي أصبح قمرًا يضيء ليل غزّة

طاقم طبّيّ في مستشفى ناصر خلال الحرب الإسرائيليّة، خان يونس | عبد زقّوت

 

تنهش الكلاب لحم الشهداء أمام عيون الأطبّاء في الساحة الأماميّة من «مستشفى الشفاء»، صوت الزمجرة يعلو، وتتقطّع الأجساد الطاهرة الّتي قُصِفَتْ لتصعد الأرواح إلى السماء، بينما يبقى الجسد على الأرض. لا رفاهية للدفن في غزّة، لا رفاهية بجنازة تليق، لا قبلة وداع، لا أحد يعرف مَنْ هم الشهداء الملقون أمام بوّابة المستشفى، وفي الطرقات، وفي ساحة المستشفى، وبين سيّارات الإسعاف الجاثمة دون وقود أو حياة، يتناثر الدم الطازج في الساحة وعلى أبواب السيّارات، ويسيل كنهر يبكي دون توقّف، تزداد الكلاب شراسة، وتتكاثر، يفرّقها صوت الرصاصات المنهمرة من كلّ ناحية، صوت الرصاص كأزيز يلفح وجهك العاري، وتنتشي هلعًا بأنّك ما زلت على قيد الحياة/ الموت!

تعود في سكون لا يكاد يتّسع الكون من صمت قاتل، تعود الكلاب الأربعة وقد زادت خامسًا، تركض منتشية ما بين الجثت المسجاة في كلّ مكان، تنهش اللحم الّذي كان حيًّا بعضها قبل ليلة، وبعضها قبل ساعات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة… بينما دموع القهر والهلع قد بلغت ذروتها في عين طبيب لم يعُد يرى من نظّارته المكسورة الزجاج، عاجزًا عن طرد الكلاب عن الأجساد الطاهرة.

لا رفاهية للتلفّع بتراب الأرض، وما يسمّونه قبرًا، لا شاهد على القبر، ولا قبر، إنّما القبر فوق الأرض فوق الحياة، إنّه الموت يتربّص بكلّ مظهر للحياة في غزّة.

قلب الطبيب المقهور يبدو كخريطة المدينة المشوّهة، يعلو بعضها فوق بعض، تتكسّر طرقها فتبكي الشوارع قبل البيوت، يتلفّع الشهداء وحدهم الآن بجدران بيوتهم، وحيدين يبقون لا أحد يقترب، لا أحد… المصابون، لا أحد يقترب، إنّه الموت، إنّه القهر، إنّه عهر عالم يزداد بشاعة.

الدبّابات الضخمة بجنازيرها العريضة تكاد تشبه ثعبانًا كبيرًا بشكل مربّع، تمتدّ بلسانها القبيح لتطلق القذائف في وجه البيوت، تلقيها واحدة تلو الأخرى، يتلوّن وجه الحيّ بالغبار الّذي يعمي القلوب والعيون، تقترب رغم شابورة الهواء الملوّث بالحجارة، وبقايا رائحة القذائف المتفجّرة، تمشي برتل، واحدًا تلو الآخر؛ لتدوس بكلّ قسوة على ذلك البيت الّذي بات يترنّح من هول انفجاراتها، تتكوّم الحجارة ليقع اللحم الحيّ الّذي ما زالت فيه بقايا حياة؛ لتمضي عليه الدبّابات غير آبهة بقاطني البيوت، الشهداء يتساقطون… الأمّ القعيدة تصرخ، غير أنّ جنازير الدبّابة تقلع رأسها فيخبو الصوت الناجي، تمضي دبّابة أخرى تلو الأخرى، يصبح البيت كالطحين المنثور في الطرقات… الصرخات لا تتوقّف يمينًا ويسارًا، تبكي الطيور الّتي كانت شاهدًا على قتل العوائل الفلسطينيّة، تهرع إلى بلاد بعيدة تحدّث مثيلاتها من الطيور عمّا لمّا يُقَل بعد.

الأسر تتساقط بعد أن أصبحت بيوتها ساحة حرب، لم يتبقّ أحد من الجيران… الصرخات تخبو شيئًا فشيئًا، تختبئ الدبّابات العشرون خلف بناية ما زالت مأهولة بصوت الحياة، تتراجع قليلًا، ترتفع الراية البيضاء، تخرج إحدى قاطنات الحياة، تعاجلها رصاصات الغدر الإسرائيليّة، ترتفع صرخات الفتيات والفتيان الصغار، يعلو صوت الأب للغادرين العابرين على أجساد البيوت، تتراجع الدبّابات أكثر فأكثر، يعلو صوت الصرخات، يسحب الأطفال جسد أمّهم إلى البيت من جديد، لم يكد الصغار يحتضنون جسد أمّهم، يبكون رحيلها المباغت، حتّى تتفجّر القذائف واحدة تلو الأخرى على البناية، يلتحم اللحم البشريّ مع جدران البيت وذكريات الطفولة، الأصوات المتفجّرة والشظايا المتناثرة تحملق بهم، ثمّ تنشطر بجنون ملعون لتقطع الأجساد والرؤوس والأعمدة، عشرات القذائف تخترق البيت الّذي يئنّ، وتطغى على صوت الناجين، تمضي الدقائق المسعورة والبيت بات هباء، بينما وقع كلّ آمال الحياة الّتي كانت ترجو أن تنتصر على الموت. تتقدّم الدبّابات المسعورة لتمسح ما تبقّى من حياة، وتعلو على ركام البيت وأصحابه، بينما يد ترتجف بالشهادة ما زالت تعلو، يخفت الصوت إلّا من صوت الموت.

***

قلب الطبيب ينهمر كمطر أسود، صوت نحيبه يعلو، وعين تراقب الجرحى الّذين يذوون أمامه بلا قدرة على إنقاذ حياة، يغالبه الوجع، وصوته يعلو بالقسم لإنقاذ الحيوات، وعين أخرى تصرخ بالكلاب الضالّة الّتي تنهش أجساد الشهداء. ينسى في خضمّ الموت المسعور أمامه من عشرين ساعة وأكثر صوت بطنه الجائع، وعطشه المتعاظم، بينما قلبه قد انطفأ وهو لا يعرف بأيّ مكان نزحت عائلته، هل ظلّوا على قيد الحياة؟ يرفع يديه للمنجاة، ويبكي كطفل تنهار قواه حين يفقد أمّه.

قلب الطبيب كالقمر مضيء. يتلهّف لتأدية واجبه على أكمل وجه، يراقص الموت، يغافله؛ ليُنْقَذ جريح، ويعيد أنفاس الحياة لمَنْ كاد يفقدها؛ فاللّه اختاره ليكون هنا، هنا كحمامة بيضاء تنثر الرحمة والسلام لكلّ مَنْ يعاني، يخفّف عن المكلومين أوجاعهم ويسكّن الألم، القمر ينطفئ شيئًا فشيئًا بعد أن سرقوا منه سلامه الداخليّ، تطاولوا وقصفوا الأطبّاء في غرفة العمليّات الجراحيّة؛ لتتناثر شظايا آلاتهم القاتلة، تنهال الرمال والغبار والحجارة فوق رؤوسهم وهم يؤدّون عملهم، يخيطون الجراحات بما تبقّى لديهم، لا مسكّن ولا بنج يحيطهم، لا نظافة تُذْكَر، لا معقّمات ولا أيّ معايير إنسانيّة كي يؤدّوا ما أقسموا عليه.

القمامة تنتشر في كلّ مكان، ممنوعون من الحركة، لا يعرف الأطبّاء حال نظرائهم في باقي مباني «مستشفى الشفاء»، إنّهم يحدّقون في المجهول، الموت ينتشر في كلّ مكان، الطائرات المسيّرة الناشرةَ الموت تحلّق في ساحة المستشفى، تحوّل أيّ حركة في المحيط إلى أشلاء، تنطلق شيفراتها القاتلة وقد تعاجلها قذيفة الدبّابة الّتي تغلق باب المستشفى.

الدبّابات تحيط بالمستشفى من كلّ الأماكن، تحاصره وتحاصر المرضى، في عالم فاضل لا تجدي مناشدات الأطبّاء المحاصرين في داخله، إنّه القتل المتعمّد والجميع شريك، لا ماء للتعقيم، ولا لنظافة الأيدي، ولا للشرب، لا ماء للطبيب الإنسان، لقد نال التعب والقهر والوجع من جسده وقلبه وروحه حتّى نحلت أجسادهم، يرسلون كلمات نداء واستغاثة إلى نظرائهم في العالم، المرضى يموتون أمامهم، يلفظون أنفاسهم الأخيرة بين أيديهم العاجزة عن الإنقاذ، الأطفال الجرحى يصمون آذانهم صراخًا من الألم والوجع، الجراح تتعفّن، والجثت في طرقات المستشفى، وفي الثلّاجات الّتي لم تعُد ثلّاجات بفعل انقطاع التيّار الكهربائيّ؛ فقد بدأت تتحلّل وتذوب، ورائحة الموت المتحلّل أشدّ قسوة على الناجين الأحياء… مستشفًى يصبح مكرهة صحّيّة ومقبرة بلا سقف أو غطاء.

طبيب إنسان كان على قيد الحياة، يسير بين الجرحى، يرسم ابتسامة وقلبه يتقطّع، يداوي جراحًا، ويهب تعبه لوجه الله ووجه السماء، طبيب إنسان اسمه همام، كان ناجيًا حينما ركض ليصل إلى الجرحى ليداوي آلامهم، يحتضن صراخهم، ركض ليحمل طفلة جريحة، ركض إلى غرفة العمليّات… هو مسعف وطبيب ومداوٍ وممرّض في لحظة. يقول بصوت حزين عبر وسائل الإعلام الأجنبيّة؛ مجيبًا عن سؤال المذيعة: “لماذا لا تغادر أنت وأسرتك إلى جنوب القطاع؟”، فيجيب: “إذا غادرت فمَنْ يعالج المرضى؟ إنّهم بشر يستحقّون الرعاية الصحّيّة، وليسوا حيوانات… هل تعتقدين أنّني درست الطبّ لأكثر من 14 عامًا لأفكّر في حياتي وأترك المرضى؟ لا، لن أغادر”.

لم يغادر الطبيب همام اللوح المستشفى قطّ، ظلّ بجوار والده الطبيب حتّى آخر رمق من أنفاسه، لم يترك مرضاه، بل قُتِل معهم بفعل قذائف الاحتلال الإسرائيليّ على المستشفى، ظلّا ينزفان وهما على اتّصال بأطبّاء آخرين في «مستشفى الشفاء»، يطلبون الإسعاف والنجدة لجراحهم.

الحياة لا تمهلك لتفهم كيف تخون سيّارات الإسعاف أطبّاءها، وهم الجرحى وهم المصابون، لكنّ سيّارات الإسعاف أيضًا قُتِلَتْ بفعل رصاصاتهم وسائقوها قُتِلوا وهم يحملون الجرحى. حصار في حصار، وقتل في قتل، ووحشيّة في وحشيّة، تمضي ساعات الليل بدقائقها وثوانيها الدقيقة لتقتل الأمل رويدًا رويدًا، يزداد نزف الدماء، يزداد الألم، يزداد الصراخ، يزداد الموت إمعانًا في أجسادهم، تمتزج دماء همام الابن الطبيب بدماء أبيه الطبيب، وفي مستشفاهم وبين مرضاهم، ولا يخذلون القَسَمَ الطبّيّ، ولا يتخلّون عن مرضاهم، لا يتخلّون عن أمانتهم؛ ليستلم الله أماناته دفعة واحدة.

الطبيب القمر ينطفئ ليطفئ قلوبنا، لقد أصبحت قلوب الغزّيّين كمشكاة في زجاجة، كفتيل مشتعل بزيت الزيتون، حتّى لو قُتِل فهو لا ينطفئ انطفاء الموت بل انطفاء الاشتعال من رماد وجمر، يصبح قلبه جمرة متّقدة حين تلمسها تحترق في وجه الظلم والاستبداد والوحشيّة، يسيل الدم النقيّ الطاهر بين أروقة المستشفى، دماء أصحابه وحلمهم بأن يكونوا منارة للحياة.

الشهداء يبقون كما هم في الطرقات، في البيوت، في القلب. المصابون والجرحى يبقون كما هم في الطرقات، في بقايا البيوت، في القلب المنفطر. المرضى يبقون كما هم على الأسرّة، على الأرض، بين طرقات القلب المدمّرة. العجائز يحدّقون في الزمن المتوقّف على نزوحهم، فجيعتهم، فمَنْ نجا من دير ياسين لم يَنْجُ في غزّة.

الأطفال، يا ويل قلبي.

الناجون من نهر الدم الّذي لا يتوقّف تقرقُر بطونهم… تجفّ حلوقهم عطشًا.

الناجون قُتِلَتْ أرواحهم قبل أجسادهم، أيديهم مرفوعة إلى السماء كمشكاة في زجاجة، تتأرجح قلوبنا هلعًا وجعًا، يا لبشاعة هذا العالم، الشفاه نال منها الجفاف، العيون غائرة، سقط من حداقها العالم، الفم تحجّرت فيه الكلمات المكلومة، الوجه أصابه السهد بعد أن نحلت الخدود فأصبحت سهلًا لا قمّة حمراء تظلّلها.

لا عالم اليوم نراه، لا مدن حيّة، لا مدينة تعلو فوق مدينتي النازفة!

***

طبيب راوٍ يروي حكايات الناجين من حوله، يدخلون منزلًا بعد أن يقتلوا بوّابته بقذيفتهم المدوّية، يدخلون كالتتار المتعطّشين للدم والجبناء الّذين يريدون أن يسطوا على كلّ شيء بعد أن سطوا على أرضنا وبلادنا، ينكّلون بالأحياء، ينالون من الرجال والشباب، يضربونهم ضربًا مبرّحًا، ثمّ يقتادون العائلة، نساءها وأطفالها، يجعلونهم دروعًا بشريّة أمامهم كغيلان، لم يعُد لها صلة بالإنسانيّة.

دبّابة يتقدّمها طفل بالكاد يحبو، وأمّه تتّكئ على جراحها وتمشي، وأب مكلوم تنزف جراحه من تنكيلهم، وجدّة تمشي وقلبها قد رحل بعد أن هاجرت من أرض البلاد الكبيرة، يمشون وبقيّة الأطفال يبكون، وأقدامهم العارية تُصاب بجروح ما بين حجارة مدبّبة وأسلاك وشظايا لينزف الدم من أقدامهم الصغيرة. كان الألم لا يُطاق، إلّا أنّ صوت جنازير الدبّابات من خلفهم يجعلهم يتمنّون أن تبلعهم الأرض قبل أن تدوسهم دبّابات الكفر البشعة.

 ماذا حدث؟

أفرّوا إلى السماء أم فرّوا بأرواحهم ونَجَوْا؟

أداستهم دبّابات الكفر بعد أن جعلت منهم دروعًا بشريّة أم ماذا؟

مَنْ يجيبنا بعد أن انقطعت السبل وباتت الحكاية المجروحة كجرح أرواحنا؟ مناشدة، وشاهد عيان، وطبيب يروي الحكاية، الطبيب الإنسان الّذي أصبح قمرًا ليضيء ليل غزّة المعتم الكالح السواد، ينثر حبّه وإيمانه بواجبه. إنّه الطبيب البطل الّذي لا مثيل له في العالم.

 


 

هداية شمعون

 

 

إعلاميّة فلسطينيّة، وباحثة متخصّصة في القضايا النسويّة، عملت منسّقة برنامج الأبحاث والمعلومات في «مركز شؤون المرأة- غزّة» منذ عام 2002 إلى 2017.

 

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *