Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

لا وقت للأسئلة الكبرى | شهادة

غزّيّ يبحث عن ناجين من قصف إسرائيليّ على مخيّم رفح، 17/10/2023 | Getty

 

هذه شهادة من غزّة، بدأت كتابتها في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2023، واستمرّت كتابتها لمدّة ثلاثة أيّام، حيث توقّفت عن الكتابة غير مرّة، أحيانًا؛ لانشغالي بالبحث عن الخبز والماء، وأحيانًا؛ لانشغالي بالحزن على مَنْ فقدت من أصدقاء وزملاء وجيران، وأخيرًا، لأنّ ساق قطّتي كُسِرَت.

 

***

 

لا وقت للأسئلة الكبرى، كلّ ما يمكنني فعله الآن هو محاولة تتبّع التفاصيل الصغيرة، الّتي تتجمّع لتصبح سطرًا في كتاب المأساة الكبرى. والمأساة، من ناحية أخرى، فرديّة؛ أي أنّه لا يمكنك أن تقرأها بعموم انعكاسها، بل بخصوصيّة هذا الانعكاس عليك.

لقد قتلوا فاطمة، وبشكل شخصيّ، أنا لا أعرفها، لكنّها ابنة الجار أبو نضال؛ لقد قُتِلَت هي وزوجها وأبناؤها في مجزرة مخيّم جباليا في يوم الثلاثاء، 31 تشرين الأوّل (أكتوبر). عرفت الخبر من أمّي، الّتي تقيم حاليًّا في إسطنبول مع والدي وأختي الصغرى. تقول أمّي في كواليس هذا الخبر: “أختك ريما يمّا، كانت في المحاضرة في جامعتها – في مدينة موغلا – وقَرَتْ الخبر على «الفيسبوك»، وأُغْمى عليها، جابولها الإسعاف وأخدوها ع سكن الطالبات مطرح غرفتها، وبعد ما استوعبت الخبر، رنّت علينا وحكتلنا. أبوك رنّ ع أبو نضال، وصاروا يعيطوا همّا الاثنين”. سألتها، وأنا أعرف الإجابة، لماذا بكى – على الهامش، رأيت أبي يبكي مرّتين، المرّة الأولى حين توفّي جدّي، والمرّة الثانية حين قُتِلَ صديقه محمّد الموسى في أحداث انقلاب غزّة في عام 2007. ردّت أمّي مستنكرة سؤالي: “مالك يمّا، أبو نضال عزيز علينا كلّنا”.

أيّ مفارقة! وأيّ مأساة هذه! مَنْ كان يصدّق أنّني سأعرف خبر استشهاد ابنة الجيران، في اليوم التالي، وعبر اتّصال من خارج غزّة؟ في الوضع الطبيعيّ، كنت سأكون أوّل مَنْ يعرف أيّ شيء يدور في هذا البيت، إلى حدّ أن تشعر أحيانًا بأنّنا نعيش في بيت واحد، فالبيوت متلاصقة، إلى حدّ سماع كلّ كلمة تدور في البيت المجاور، بيت أبي نضال أقصد، لكنّها الحرب، والموت والجنون.

وأبو نضال، كان أوّل مَنْ صادفته من رجال الحيّ في صباح الثالث عشر من تشرين الأوّل، حين تلقّينا خبر ضرورة إخلاء غزّة، والتوجّه إلى الجنوب – أعيش في منطقة تُدْعى الصفطاوي، في شمال القطاع، غرب جباليا تحديدًا – كنت في منزلي، مع زوجتي وابنتي ليليا الّتي أتمّت عامها الثالث في ذلك اليوم، لكنّها قصّة أخرى قد يتّسع السرد لاستيعابها. كان في منزلي أيضًا حماتي – والدة زوجتي – وأربعة من إخوتها، ميلينا وسارة، محمود ومحمّد، الّذين اضطرّوا إلى إخلاء منطقة بيت حانون منذ اليوم الأوّل للحرب. بحسبة بسيطة؛ نحن على الأقلّ في حاجة إلى مركبتين. وعلى الرغم من أنّ الخبر أُكِّد عبر صفحة الناطق باسم دولة الاستعمار، مع تمام الساعة السادسة صباحًا، إلّا أنّني عرفت الخبر قبلها بثلاث ساعات؛ فقد تلقّت سارة، أخت زوجتي، اتّصالًا من صديقتها الّتي يعمل والدها في «وكالة الغوث لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين»، تخبرها فيه بأنّ «الأونروا» أُبْلِغَت رسميًّا بإجلاء العاملين فيها إلى جنوب وادي غزّة.

كان الأمر يبدو مزحة لوهلة، لكنّني كنت أشاهد باصات تابعة لـ «الأونروا» في حركة غير طبيعيّة في منتصف الليل، فالطبيعيّ في هذا الوقت ألّا يكون هناك أيّ حركة، بل الحركة تتوقّف في المنطقة تقريبًا مع بداية الغروب. كنت أقلّب في الخبر يمينًا ويسارًا، آخذًا بعين الاعتبار كلّ الخرائط والمناطق الّتي أمر الاستعمار بإخلائها، منها منطقة بيت لاهيا، بما يشمل منطقة بئر النعجة، الّتي يأتي بيتي على أقصى طرفها الجنوبيّ. على الرغم من هذا، فلم يَبْدُ الأمر منطقيًّا، يبدو الأمر خدعة، أو فخًّا، أو أيّ شيء سوى أن يكون هذا الأمر حقيقيًّا.

من المهمّ أن أشير، إلى أنّ تلك الليلة – الأخيرة في غزّة، الخميس الموافق الثاني عشر من تشرين الأوّل من عام 2023 – كانت هائلة بكلّ ما للكلمة من معنًى، تطلّ نوافذ بيتي الغربيّة على منطقة تُسَمّى السلاطين، والغربيّة الشماليّة على منطقة تُسَمّى العطاطرة، وبشكل عامّ، يمكنني رؤية منطقة العامودي من شبّاك منزلي على الطابق الثالث. لم تتوقّف الأحزمة الناريّة على هذه المناطق؛ إذ بدأت مع غروب يوم الخميس المذكور، واستمرّت حتّى السابعة تقريبًا من صباح الجمعة، الثالث عشر من تشرين الأوّل. أحزمة ناريّة، نار هائلة، صوت يفوق قدرة الآذان على الاحتمال، ودمار لا يدركه العقل إلّا مشدوهًا، آخذة في الاقتراب، انطلاقًا من منطقة العامودي، وهي تقريبًا أقرب المناطق في الشمال الغربيّ إلى الحدود مع الكيان الصهيونيّ، وصولًا إلى مناطق العطاطرة والسلاطين، على بُعْد نصف كيلومتر من منزلي، مع تراب وغبار يتطاير حدّ أن يضرب وجهي، ورائحة بارود تخبرني بأنّ الموت يقترب.

قطع حالة التحليل والتفكير هذه، ومحاولات فهم المنطق والأهداف الإسرائيليّة العسكريّة والسياسيّة، عدد من الاتّصالات الهاتفيّة الّتي وصلت هواتفنا مع تمام الرابعة صباحًا، برسائل صوتيّة مسجّلة من جيش الاستعمار يخبرنا فيها بضرورة إخلاء الشمال وغزّة، والتوجّه إلى جنوب الوادي.

لا وقت للأسئلة الكبرى، لا وقت لفهم السبب؛ الأهداف؛ النتيجة. كلّ ما أمكنني التفكير فيه هو إمكانيّة توفير مركبتين لنقلنا إلى جنوب الوادي، إنّها معركة الرهانات الكبرى. وأيّ رهان بوسعي أن آخذ الآن! جميع مَنْ في المنزل ينظرون نحوي، فحماي – والد زوجتي – توفّي قبل عام تقريبًا، وأنا الآن، في تلك اللحظة، ربّ الأسرتين.

“هنتحرّك مع الضحى، ضبّوا الأغراض”، أخبرتهم، وصعدتُ نحو الطابق الرابع، حيث يسكن عمّي. أخبرتهم، أن يسرعوا، وأنا أعرف أنّهم لم يتلقّوا أيّ قسط من النوم خلال يومين سوى ساعتين على أكثر تقدير؛ عيون ناعسة، مرهقة ومتعبة، يخيّم عليها الخوف والحزن والغضب واليأس.

وعمّي، رجل ذو حسّ أمنيّ عالٍ، كان يعمل في أحد أجهزة السلطة الفلسطينيّة الّتي فقدت وجودها في غزّة مع عام 2007. حين أخبرته، أخذ يضحك من قولي، وقال: “إنت مش نايم… هذا مش خبر تجيني فيه في نصّ الليل”.

مجدّدًا، لا وقت للأسئلة الكبرى، ولا وقت لشرح الرهانات الكبرى أيضًا. تركته، وعدت لأساعدهم في ترتيب ما سنحمله معنا نحو الجنوب. مع تمام السادسة، وحين نُشِر الخبر عبر صفحة المتحدّث باسم الجيش الإسرائيليّ أفيخاي أدرعي على «فيسبوك»، صعدت إليه مجدّدًا، وأخبرته بأنّ الأمر أصبح رسميًّا، لكنّ شيئًا لم يتغيّر، لقد أجابني ببعض الواقعيّة هذه المرّة: “هذا لا يمكن، لا يمكن إصدار أمر بإخلاء مدينة، حتّى لو كان مَنْ يأمر بهذا هو إسرائيل. أصلًا، أين سنذهب؟ هل سيتّسع المليون لمليون آخر؟ وهل جنوب الوادي آمن؟ إنّه يُضْرَب الآن كما يُضْرَب شماله، ما الفارق الّذي سيحدث بين شماله وجنوبه؟ أنا سأبقى هنا، واذهب أنت إذا أردت”. مجدّدًا، لا وقت للأسئلة الكبرى، ولا وقت لشرح الرهانات الكبرى، تركته، وعدت لأساعدهم في ترتيب ما سنحمله معنا نحو الجنوب.

في رأسي، كنت أريد إخباره بأنّنا رأينا ما حدث مع كلّ المناطق الّتي أُمِر بإخلائها، الكرامة، المقوسي، العامودي، وبعض المناطق الأخرى. لقد مُسِحَت بالكامل، وكنّا شهودًا على ذلك. كيف بوسعي أن آخذ رهانًا مثل هذا؟ كيف بوسعي أن أراهن على أنّ إسرائيل لن تفعل هذا؟ لكنّ الوقت كان يمضي سريعًا، ولا وقت للأسئلة الكبرى.

وثمّة أمر آخر، أحاول أن أفكّر بشكل منطقيّ؛ أنّني في وضح هذا النهار أحاول الحصول على مركبة لنقلنا إلى الجنوب، ولا أجد، حتّى بعد مرور ساعتين من الاتّصال على كلّ مكاتب النقل في غزّة، حتّى مع عرض مبلغ 100 دولار مقابل كلّ مركبة، مع العلم أنّ التكلفة الطبيعيّة لهذه الرحلة لا تصل إلى 20 دولارًا. إلهي… ماذا أستطيع أن أفعل؟

وبالطبع، كنت قد أخذت القرار بالتوجّه إلى جنوب الوادي حتّى دون تفكير في المكان الّذي سنذهب إليه. تسأل ميلينا، أخت زوجتي: “وين هنروح؟”، أردّ بإجابة قاطعة: “إلى رفح”. لماذا رفح؟ ببساطة لأنّها آخر محطّة في القطاع. “رفح؟” يستنكر الجميع، مؤكّدين أن لا أقارب ولا مكان لنا في رفح، هنالك أقارب وأماكن في مناطق أخرى، في المحافظات الوسطى، في خان يونس، لكن ليس في رفح. أعود بأمر حازم: “على رفح، حتّى لو هننام في الشارع، مش هنقعد نخلي من محافظة لمحافظة، لرفح، المحطّة الأخيرة”. في وعيي في تلك اللحظة، كان الأمر بإخلاء شمال الوادي والتوجّه إلى جنوبه يعني أمرًا واحدًا: إزاحتنا وتقريبنا من مصر في محاولة لتمرير خطّة التهجير إلى سيناء. إذا كان هذا سيحدث، أريد أن أكون قريبًا، ومن ناحية أخرى، لقد استغرقت عمليّة البحث عن مركبة أكثر من 4 ساعات الآن، بلا جدوى، هل سأغامر مرّة أخرى بخوض هذه التجربة؟ فلأمضِ في رهاني على رفح، وليكن ما يكون.

نزلت إلى الشارع، وجدت العمّ أبا نضال جالسًا، يبحث عن شاحنة لتزويد بيته بالماء. والصراحة أنّي اعتقدت أنّ الجميع قد فكّر مثلما فكّرت، لكنّني صُدِمْت؛ فالجيران كانوا فعلًا في خضمّ ’طوشة‘ لحجز شاحنة الماء الّتي مرّت بالشارع. أفكّر: “ألا يفكّرون في الإخلاء؟ تعبئة الماء تعني الاستمرار في الوجود في المكان”. لكن، لا وقت للأسئلة الكبرى، عليّ أن أجد مركبتين بأسرع وقت ممكن.

سألت العمّ أبا نضال: “وين هتروحوا؟”، متجاوزًا حتّى السؤال أكان ينوي المغادرة أم لا، علمًا أنّ لديه 5 من الأبناء الذكور، ومثلها من الإناث، 5 من أصل 10 متزوّجون ولديهم أطفال، يقيمون جميعًا في بيته المكوّن من 4 طوابق. أجابني: “كِنّ يا إيهاب، فشّ حد رايح ولا حد جاي”. أفكّر، لا جدوى، لكنّني لا أفقد الأمل، أحاول إقناعه بأنّنا لا يمكننا أن نأخذ هذا الرهان مع اقتراب الأحزمة الناريّة من منازلنا. لكنّه ثار في وجهي، كما لم يفعل من قبل، صارخًا: “إنتَ مجنون! وين أخلي؟ وين أروح بهذا الطحش؟ 30 نفر، من وين أطعميهم، إحنا عايشين من هالدكّان! بعدين أصلًا وين بدّي أروح فيهم؟ والله مدرسة وكالة ما بتكفيهم! بعدين أنا بدّي أتهجّر زي ما سيدي تهجّر! اقعد، وتنشرش الخبر في الحارة، خلّي الناس قاعدة”.

مفارقة كبرى، هذا ما أراه، كلمات بسيطة، تلخّص هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانيّة؛ فنحن الآن في قاع الهرم، وقد رتّبها العمّ أبو نضال – وهو كهربائيّ لا يعرف ماسلو، ولم يسمع به من قبل – كما جرى ترتيبها في الهرم الشهير، المأكل والمشرب؛ المأوى؛ الأمان؛ التقدير وتقرير المصير. أفكّر الآن بعد 22 يومًا من مغادرة شمال قطاع غزّة إلى أقصى جنوبه، في كلّ الأصدقاء والأقارب الّذين ما زالوا في شمال الوادي، والّذين لم يغادروا بيوتهم لأنّهم لم يجدوا مأوًى في الجنوب – مئات الرسائل تصلني يوميًّا تسألني عن توفّر مكان، ولو ركنًا في مدرسة تابعة لـ «الأونروا» – ولم يجدوا وسيلة لكسب العيش إلّا دكاكينهم الصغيرة في غزّة، ويتكبّدون الآن أثمانًا فادحة. ربّما، لو اتّسع المليون لمليون آخر، ربّما كانوا نجوا، لكن هذا رهان آخر، فأنا لمّا أضمن النجاة بعد؛ فالموت في كلّ اتجاه. هكذا، يصبح رغيف الخبز وشربة الماء، قفزة مجنونة في الهرم، من أدنى قاعه، إلى أقصى قمّته، سهمًا ثاقبًا في اتّجاهين: اتّجاه تقرير المصير، وفي اتّجاه الموت.

أواصل البحث عن مركبتين، لكن دون جدوى. أدعو الله: “اللهمّ! لا تذرنا فرادى، والطف بنا، فأنت اللطيف الودود”. لكنّ المعجزات لا تنقطع، إذ تتّصل بي زوجتي لتخبرني أنّ عمّها سيغادر إلى جنوب الوادي بباص ذي حمولة 50 راكبًا، وأنّ هناك متّسعًا لنا، جميعًا، في مركبة واحدة.

 

هل بوسعي أن أكون أكثر امتنانًا؟

لقد قتلوا فاطمة، ابنة العمّ أبي نضال. وعمّي، الرجل العسكريّ صاحب الحسّ الأمنيّ العالي، اضطرّ إلى ترك بيته بعد مغادرتي بأربعة أيّام، لقد سار في منتصف ليلة السادس عشر من تشرين الأوّل، من منزلنا الواقع في الصفطاوي، حتّى منتصف «شارع الجلاء»؛ أي على بُعْد 5 كيلومترات، تحت نار وقصف عنيف، مع عائلته المكوّنة من 8 أفراد، علمًا أنّ واحدة من بناته حامل في شهرها الثامن – وقضى هناك ثلاث ليالٍ مجنونة أخرى في منزل أختي، وهو يبحث عن مركبة تنقله إلى الجنوب. لقد حدث كلّ هذا لأنّه طرح الأسئلة الخاطئة أوّلًا، وأخذ الرهان الخاطئ.

أريد أن أصدّق هذا، أريد أن أقول بأنّني أخذت رهانًا جيّدًا، لكنّني لا أعرف، أو ربّما، لست واثقًا، حين وصلني أمس خبر مقتل زميلة سابقة، مع زوجها وأبنائها، في مجزرة جديدة في مخيّم البريج، جنوب وادي غزّة.

بالأمس، اتّصلت بي أختي، أخبرتني أنّ منزلها قد انهار جرّاء القصف، كنت أقف في طابور الخبز، وهناك مَنْ يحاول التسلّل في الطابور، ويهدّد العمليّة برمّتها، لم أجد وقتًا لمواساتها، قلت سريعًا: “المال معوّض يختي، بكلّمك بعدين، لازم أروح”.

 


 

إيهاب الغرباوي

 

 

 

كاتب وناشط فلسطينيّ من قطاع غزّة، يعمل في «مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ»، وفي تنسيق العديد من المبادرات الشبابيّة والتعليميّة.

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *