Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

غزّة… عيش على الحافّة

طفلان ناجيان من قصف إسرائيليّ على رفح، 31/10/2023 | محمّد عبد (Getty).

 

يأتي الليل على غزّة لا كما يأتي في أيّ مكان آخر في العالم، حيث يزداد حلكة فوق حلكته، ويزداد رعبًا فوق رعبه، وتغيب كل رومانسيّاته الّتي صاغتها البشريّة حوله، حيث الهدوء والخفاء والراحة ونهاية اليوم. الليل في غزّة متّصل بالنهار، لا ينام ولا يغفو ولا يدع أحدًا. الأعداء لا يفرّقون بالزمن، ولا بالأعمار ولا بشيء سوى رغبة القتل والانتقام والإبادة. لا يمكن وصف غزّة تحت الموت سوى بمقتلة جماعيّة مفتوحة ومستمرّة لا يصفها سوى الإبادة. إنّها لا تستثني أحدًا ولا مكانًا ولا زمانًا. في كلّ دقيقة ونصف شهيد، وربّما يُضاف إليه شهيد ونصف، لمّا يُكْتَشَفْ بعد أين نصفه الآخر، هذا لفرط الفجيعة ليس بلاغة، بل واقعًا.

يأتي الليل في غزّة مرعوبًا، منهنهًا بصيحات الناجين الخارجة من قحف الرأس، باحثين عن أشلاء أحبّتهم وضحايا الغارة. عمليّة البحث الّتي ستصبح بعد قليل من الغارة بحثًا وأملًا في إيجاد ناجين، فكلّما تعاظم غوار الموت قصفًا من السماء في البيت، وفي المستشفى، وعلى الطريق، وفي السيّارة، وفي المقبرة، وفي سيّارة الإسعاف، أو في حضن الأب وحضن الأمّ، وفي كلّ مكان، حاصدًا حزمًا من الأرواح، الّتي لا تعود تُعَرَّف إلّا بكونها حزمة وجماعة… لا يعود الموت سؤالًا مقلقًا بل أليفًا لشدّة تكراره. مثل كلمات طفلة ناجية من تحت الردم، وهي خارجة منه، تسأل من هول ما اختبرت: “أنا ميتة؟ ماخدينّي على المقبرة؟”، أو كلمات طفل يلقّن أخاه الطفل أيضًا الشهادة، وقد حسبه وهو مضرّج بدمائه أنّه سيرحل مثل الباقين.

 

النجاة وشكلها 

لم يَعُدْ السؤال المريع في غزّة، الواقف في الحنجرة هو البقاء والنجاة، بل المريع هو شكلها؛ شكل البقاء وشكل النجاة. الّتي تزداد ملحاحيّة كلّما تكاثف الموت والقصف والرعب، وتناثر الأشلاء، وفقدان كلّ أمان في كلّ الأمكنة الممكنة.

شكل البقاء يترافق مع السؤال عن شكل الموت، فتحقّقه ممكن جدًّا، واحتماليّة البقاء تتناصف مع احتماليّة الموت، لكنّما شكلهما هذا لا يمكن التنبّؤ به، ولا يمكن حسمه؛ فتصبح أماني الفلسطينيّين الناجين في غزّة، المتحوّرة حول الموت، تتجسّد في تمنّي إمكانيّة الوصول إلى أجسادهم بعد الموت، أن يكون الجسد سالمًا نسبيًّا، دون أشلاء؛ أن يُتَعَرَّف عليهم بعد موتهم؛ أن يجدوا مَنْ يدفنهم أو مَنْ يبكيهم؛ وأن يجدوا مكانًا للدفن؛ فالناجون كما وصفهم سلامة معروف، رئيس «المكتب الإعلاميّ الحكوميّ» في غزّة: “يقفون على طوابير ثلّاجة الموتى أكثر ممّا يقفون في الطوارئ”.

تصبح أماني الفلسطينيّين الناجين في غزّة (…) تتجسّد في تمنّي إمكانيّة الوصول إلى أجسادهم بعد الموت، أن يكون الجسد سالمًا نسبيًّا، دون أشلاء؛ أن يُتَعرَّف عليهم بعد موتهم…

أمّا أماني الفلسطينيّ في غزّة حول البقاء فملتبسة، ولعلّها الأكثر صعوبة؛ إذ تختصر معنى الحياة المهشَّمة الّتي تلخّصها الجمل الأشهر والأصدق على لسان الناجين في غزّة: “وين نروح؟”، “لا مكان آمنًا في غزّة”.

إنّ شكل الحياة على فوّهة الانفجار، يتجاوز كلّ معاني الاستباحة والانتظار المرّ لحياة تفتقد الكثير من وسائل البقاء الممكنة، وكلّ شيء يتداعى؛ البيوت والمستشفيات والمدارس والمخابز والأبراج السكنيّة وسيّارات الإسعاف.

كلّ شيء ممكن وقابل للانفجار، لكنّ الأهمّ هنا هو شكله وقوّته ومدى أثره. يترافق ذلك مع المذبحة المستمرّة المرئيّة والمسموعة والملموسة، الّتي ستجعل من محض النجاة انتصارًا صغيرًا بين الغارة والغارة. ولم تَعُدْ الفاجعة قبل الحرب هي ذاتها بعدها؛ حين يصرخ أب فقد أبناءه من قصف بيته: “دورولي ع اولادي، هم ثلاثة، بلكي ظلّ واحد فيهم عايش”. فضلًا على حالة الانتظار المرعبة الّتي يمكن تلمّسها من كلام أحدهم حين تطمئنّ عليه، فيقول: “لسّاتني عايش”، أو يقول: “لسّه”؛ أي كلّما زادت فرص النجاة اليوميّة وحظوظها زادت احتماليّة اقتراب الدور. ولعلّ هذا ما يجعل حياة الناجين في غزّة، حتّى الآن، حياة مغرقة في لحظة الحرب لا بعدها.

 

العائلة المبتورة

تعيد هذه الحرب المسعورة تعريف الجماعة ومعناها؛ فمن الشائع أنّ الجماعة تشكّل مصدرًا للأمان والحماية؛ إذ إنّ قوّة الجمع أكثر قوّة من الفرد، ولا سيّما ما يضيفه الحشد من شعور بالألفة ومعايشة نوع من المشتركات واختبارها، لكن في هذه الحرب فإنّ الحشد – وإن كان اضطرارًا لا سبيل إلّا إليه – يكون مصدرًا لمجزرة جديدة، وتقليل احتماليّات نجاة الأفراد كلّما زاد عدد الّذين تحت الأنقاض؛ ممّا يقتضي جهودًا أكبر لإنقاذهم، وبالتالي تقلّل الجماعة نسبة نجاة الفرد؛ وهذا وحده تنتجه الحرب.

يُضاف إلى ذلك أنّ الحرب تجعل الناجين مضطرّين إلى أن يقوموا بأدوار لم يختاروها، وأغلبها يكونون فيها الشهود، سواء أصحافيّين كانوا أم نشطاء طارئين على المشهد، موثّقين بكاميرات هواتفهم شكل المجزرة وحجمها وبشاعتها، أو حتّى مسعفين ومنقذين أو غير ذلك.

كما تنتج الحرب شكلًا آخر للعائلة المبتورة، الّتي لا تعود حالة استثنائيّة بل حالة مألوفة، أكانت عائلة دون أب، أم دون أمّ أم حتّى دون أطفال؛ إذ تقتلهم الحرب أو تُبقي على بعضهم، أو تقضي على العائلة بكاملها.

إضافة إلى أنّ البيت، وهو المكان الأكثر ألفة وأمانًا للأفراد، يتحوّل إلى مكان لا تستطيع على وجه الدقّة تحديد أكثر الأماكن خطرًا فيه إذ تأتي الغارة. وليس هذا فحسب، فبعض الشهادات الّتي أتت من صحافيّين ومؤثّرين يخبرون فيها أنّ الأطفال يتوجّهون إليهم، ويطلبون طعامًا أو شيئًا ما؛ إدراكًا من الطفل الصغير بأنّ أهله لا يستطيعون توفيره له؛ فيتجنّب سؤالهم ويتّجه إلى الغرباء. وهنا؛ يكون الغريب؛ إذ نربّي أطفالنا على عدم التعاطي معه، مصدرًا للأمان النسبيّ في حالة استثنائيّة مثل الحرب، فضلًا على الأمان المفقود في البيت، ولدى الأسرة بكاملها.


من أين يأتي الموت؟ 

وقد يكون أسوأ ما في الحرب على غزّة، خاصّة الحرب الجوّيّة، أنّ العدوّ غير مرئيّ؛ فلا يمكن توقّع غاراته الحاليّة من الجوّ، وهذا ما يورث حالة من العيش على قلق حثيث ومستمرّ وغير منقطع. وما دام العدوّ غير مرئيّ، فأنت – فردًا أو جماعة ’مدنيّة‘ – لا تملك أن تواجه طائرة، ولا أن تصدّ قذيفة أو صاروخًا، ممّا يوسّع الشرخ في شكل البقاء الّذي يبتغيه الإنسان في الحرب. وإن كان وصف مدنيّ في حدّ ذاته فيه إدانة للمدنيّ وغير المدنيّ على حدّ سواء؛ فالفلسطينيّ؛ إذ يقاوم المستعمِر أسلوبَ نجاة وحيدًا وشرعيًّا وضروريًّا له، هو كلّه هدف لآلة الإبادة الصهيونيّة، سواء اختار الطريق العسكريّ أو لم يختره.

لم تَعُدْ عبارات الصمود والإرادة والبقاء تكفي لوصف الحال الفلسطينيّ في غزّة؛ فهذا لا يمكن وصفه بأقلّ من أنّه “عيش على الحافّة”…

لم تَعُدْ عبارات الصمود والإرادة والبقاء تكفي لوصف الحال الفلسطينيّ في غزّة؛ فهذا لا يمكن وصفه بأقلّ من أنّه “عيش على الحافّة”؛ حافّة الحياة والموت معًا؛ فمصطلحات كالماء والغذاء والدواء والكهرباء لم تَعُدْ أساسيّات قصوى للحياة؛ فغزّة تعيش منذ 30 يومًا وهذه الأساسيّات تقلّ يومًا إثر يوم، والناجون يواصلون حياتهم بأقصى ما تقتضيه الضرورة والصراع على البقاء. فضلًا على أنّ مصطلح ’نازح‘، أصبح يعبّر عن الكثير من الفلسطينيّين الّذين أُجْبِروا على ترك بيوتهم المقصوفة والمدمّرة، أو الّتي على وشك ذلك، والخشية أن يصبح مصطلحًا جديدًا مكرّسًا لا مؤقّتًا لوصف الحالة، يُضاف إلى قائمة المصطلحات الّتي خلقتها الحالة المستعمريّة في فلسطين مثل مخيّم، ولاجئ، ومهجّر، ونازح، وعائد.

إنّ الفارق بين النجاة والموت هو حالة العجز المدقع، وعدم الوثوقيّة المغرقة في كلّ شيء، الّتي تلفّ منطق البقاء وحرب الإبادة مستمرّة، حيث تلتبس الحياة وتستمرّ، وهي تتأبّط الخوف وقلق الانتظار، ويقاومها – بكلّ ما يملك – الفلسطينيّ في غزّة من تشبّث بالحياة، رغم كلّ المجازر.

 


 

قسم الحاجّ

 

 

محاضرة في «جامعة بير زيت»، وباحثة مرشّحة لنيل الدكتوراه من الجامعة نفسها. تتركّز اهتماماتها البحثيّة في حقل الدراسات الثقافيّة، وتحديدًا في السياقات الاستعماريّة وما بعد الاستعماريّة.

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *