Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

شرطة إسرائيل تحترف الحياكة

من فيلم «لماذا قلت أنا؟» (2021)

 

في الثلاثين من آذار (مارس) 2023، أصدرت «المحكمة المركزيّة الإسرائيليّة» حكمًا بالبراءة على رومان زادوروڤ، بعد أن قضى في السجن 13 عامًا؛ بتهمة قتل طالبة في مدرسة كان يعمل فيها في عام 2009. على مدار سنوات طوال كان زادوروڤ في السجن متمسّكًا ببراءته وتراجعه عن اعتراف أدلى به خلال التحقيق، لكنّ جهاز الشرطة الإسرائيليّة الاستعماريّ والنيابة العامّة لم تكفّا عن اتّهامه.

قصّة زادوروڤ ليست مجرّد قصّة حول خلل في عمل الشرطة والنيابة الإسرائيليّة، بل قصّة سياسات التعامل مع مشتبه يقبع في مكانٍ ما أسفل سلّم الشرائح المجتمعيّة؛ فزادوروڤ مستوطن جديد، من سكّان الشمال البعيد، عامل نظافة بسيط لا يجيد العبريّة. وثمّة في أذهان الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة عام 1948، حكايات شبيهة حول جرائم قتْل اتُّهِم فلسطينيّون بتنفيذها، لكونهم في أدنى مراتب ذلك السلّم.

قصّة رومان واتّهامه بالقتل، رغم خطورتها إنسانيًّا وسياسيًّا إلّا أنّها لا تحمل بُعدًا قوميًّا يثقل كاهل المتّهم، فلا تسود على إثرها غمامة الوصم فوق مدينة ’كتسرين‘ الّتي يسكنها، أو على جبين كلّ المستوطنين الأوكرانيّين مثله. لكنّ غمامة الوصم هذه سادت، ولا تزال جاثمة فوق صدور أهالي النقب عمومًا، وباتت رهط خاصّة أشبه بحقل ألغام في الذهنيّة الإسرائيليّة؛ كونها مسقط رأس المتّهم عنوة بقتل الفتاة حانيت كيكوس، أي سليمان العبيد.

على الرغم من تشابه بعض الحيثيّات إلّا أنّ فرقًا أساسيًّا شاسع البون، بين قضيّتَي زادوروڤ الّذي عمل في موقع جريمة قتل الفتاة تائير رادا، بينما لم تربط سليمان العبيد بكيكوس أو عائلتها، أو مكان سكناها، أو حتّى مكان العثور على جثّتها، أيّة صلة.

 

العبيد… المتّهم المثاليّ 

في عام 93، اختفت آثار فتاة تبلغ من العمر 16 عامًا، وتُدْعى حانيت كيكوس. خرجت الفتاة مساء من بيتها في ’أوفاكيم‘ (النقب المحتلّ – جنوب فلسطين)، متّجهة إلى مدينة بئر السبع المحتلّة لحضور حفلة عيد ميلاد، انتظرت في محطّة الحافلات عند مدخل ’أوفاكيم‘، ثمّ أقلّتها سيّارة مجهولة السائق لتلقى حتفها، وكان العثور على جثّتها صدفة في قناة تصريف، بعد مرور سنتين على اختفائها.

خلال السنتين، كان رجل فلسطينيّ من سكّان رهط في النقب يُدْعى سليمان العبيد، عربيّ، فلسطينيّ، مسلم، بدويّ، أفريقيّ البشرة والملامح، عامل بسيط في مكبّ نفايات، يعاني تراجعًا في سلامته العقليّة، ولا يتقن العبريّة، قد اعتقلته الشرطة الاستعماريّة بشبهة اغتصاب كيكوس وقتلها. كانت مواصفات العبيد مثاليّة لحياكة ملفّ اتّهام.

خلال فترة سجنه الأولى، اعترف العبيد باغتصاب الفتاة وقتلها، ثمّ قدّم اعترافات شديدة التناقض للمحقّقين، لكنّ الشرطة والنيابة تمسّكتا بالاعتراف، ولم تعيرا أيّ اهتمام للتناقضات…

خلال فترة سجنه الأولى، اعترف العبيد باغتصاب الفتاة وقتلها، ثمّ قدّم اعترافات شديدة التناقض للمحقّقين، لكنّ الشرطة والنيابة تمسّكتا بالاعتراف، ولم تعيرا أيّ اهتمام للتناقضات وانعدام الأدلّة، فقد اصطاد الطُّعم فريستهم المنشودة. ضمن التحقيق، أُخِذ العبيد قبيل الثانية فجرًا لإعادة تمثيل الجريمة، وقام العبيد بذلك، لكنّه تراجع عن كلّ ما قال ومثّل بعد يومين فقط. لم يسعفه الإنكار، وأُدِين وحُكِم عليه بالسجن المؤبّد قبل أن تعثر الشرطة على الجثّة.

منذ عام 1993 التفتت المخرجة الإسرائيليّة جولي شاليز إلى هذه القصّة، فتوجّهت جنوبًا، ورافقت عائلتَي العبيد وكيكوس على مدار أشهر طويلة، راقبت كلّ ما يُقال وكلّ ما يُنْشَر، زارت البيوت واستمعت للعائلات، حضرت جلسات المحاكمة، ووثّقت كلّ شيء. كانت شاليز تشعر بالتعاطف مع عائلة كيكوس، لكنّها خشيت عائلة العبيد نتيجة الأفكار المسبقة، وكلّ ما أُشِيع عن البدو؛ إلى أن زارتهم قبيل إطلاق الحكم على سليّمان، ورأت عائلة طبيعيّة تجلس متحلّقة حول حزن عميق، تتّشح بالسواد كأنّها فقدت توًّا واحدًا من أبنائها. ارتبطت شاليز بالقضيّة أكثر، وبممثّلي العائلتين منال العبيد ووحيد الصانع من جهة، ودولي ورافي كيكوس من جهة أخرى. كان الطرفان مقتنعين بأنّ العبيد لم يرتكب الجريمة، لكن لكلٍّ حجّته، فوالدا الضحيّة تمسّكا بفكرة مشبعة بالعنصريّة، مفادها أنّ ابنتهما لا يمكن أن تركب سيّارة مع شخص بمواصفات العبيد، لكنّ منال ووحيدًا أكثر معرفة بسليّمان، وقناعتهما ببراءته ليست محصورة بقوميّته أو لون بشرته. في عام 1995 أخرجت شاليز فيلمها الأوّل عن هذه القضيّة «أجيبي إن كنت تسمعين»، قبل العثور على الجثّة.

 

«لماذا قلت أنا؟»

بعد إطلاق سراح العبيد نتيجة تقصير مدّة الحكم، عادت شاليز إلى أرشيفها الغنيّ الّذي وثّق القضيّة منذ بدايتها، وارتأت أن تضمّ سليمان العبيد إلى عمليّة التحقيق الطويلة الّتي لا تزال تخوضها؛ لتطلق فيلمها الوثائقيّ الطويل في عام 2021 «لماذا قلت أنا؟» (The Reason Why)، ومن خلاله تُراجع تفاصيل قضيّة هذا الفلسطينيّ الّذي قبع في السجن لمدّة 23 عامًا بريئًا، وأُعِيدت محاكمته ثلاث مرّات بعد تراجعه عن اعترافه باغتصاب كيكوس وقتلها.

يتتبّع فيلم «لماذا قلت أنا» كيفيّة حياكة الملفّات من قِبَل المحقّقين؛ كيفيّة اصطياد المتّهم كالفريسة، تحوم حوله وتفحص نقاط ضعفه، ثمّ تُهدّده…

يُظهر الفيلم إصرار المخرجة على تقصّي الحقيقة، وعدم الاكتفاء بعرض قصّة ظلم لحق بالعبيد. لم يعطِ الفيلم مساحة منفردة لعائلة كيكوس للتعبير عن ألمها وموقفها ورأيها، بل منح بالتوازي مساحة لعائلة العبيد لمراجعة فيديوهات التحقيقات، وتتبُّع تفاصيلها، والتصريح بحزن ابنة فقدت والدها لمدّة 23 عامًا؛ فتاة كبرت وشبح كيكوس يلاحقها؛ فتاة حُرِمت من تهنئة الأب صباح كلّ عيد؛ فتاة قويّة صمدت في وجه عارٍ مؤقّت، وكانت مقتنعة ببراءة والدها، لكنّ القضاء الإسرائيليّ، ومنظّمات الشرطة والنيابة، لا تستعين بالعواطف.

يتتبّع فيلم «لماذا قلت أنا» كيفيّة حياكة الملفّات من قِبَل المحقّقين؛ كيفيّة اصطياد المتّهم كالفريسة، تحوم حوله وتفحص نقاط ضعفه، ثمّ تُهدّده، وتبتكر أساليب في كيفيّة إذلاله من خلال تعريته، واستهداف سلامته النفسيّة الّتي تُودي به في نهاية المطاف إلى منزلق الاعتراف بجريمة لم يرتكبها؛ لتكفّ الشرطة عن العبث بكرامته.

 

تفكيك الجريمة 

يجلس وحيد الصانع – وهو ابن أخت سليمان العبيد – أمام شاشة يشاهد فيديو من التحقيقات، يظهر فيه محقّق وهو يقرأ على مسامع العبيد نصّ اعترافه، يثور وحيد ويؤكّد أنّ قراءة النصّ أمام العبيد عشرات المرّات لن تجعله يفهم ما كُتِب هناك بالعبريّة.

كيف حُكِم على العبيد قبل العثور على الجثّة؟ كيف يمكن أن يصدّق عقل بأنّ العبيد قاد السيّارة بيده اليسرى، ووضع اليمنى على فم كيكوس لإسكاتها؟ كيف صمتت الضحيّة واستمرّت بالجلوس إلى جانب الجاني دون إبداء أيّ اعتراض؟ هل يعقل أن تشعر الفتاة بالخطر ولا تحاول القفز من السيّارة، أو ضرب الجاني، أو حتّى عضّ يده الّتي تغلق فمها؟ كيف جلست صامتة ويداها إلى جانبَي جسمها غير مقيّدتين – حسب وصف العبيد؟ كانت كلّ هذه الفجوات في منطق الاعتراف لافتة لكلّ من سمعها إلّا المحقّقين.

على الرغم من الأفكار المسبقة العنصريّة، يؤكّد والدا كيكوس براءة العبيد، ويتساءل الوالد خلال أحد مشاهد الفيلم: كيف يمكن نقل فتاة بسيّارة وحملها واغتصابها وقتلها، وإخفاء جثّتها، دون ترك أيّ أثر لها في الملابس أو السيّارة أو جسم القاتل؟ لكنّ الإجابات عن تساؤلاته لم ترد في أيّ تحقيق.

في هذا الوثائقيّ المتكامل، المستفزّ لشعورنا بالظلم اللاحق بالعبيد، تبدو المخرجة محقّقة أكثر قوّة وقدرة على التمعّن في التفاصيل، وتوجيه الأسئلة الصعبة لتتفوّق على المحقّقين، والقاضي المتقاعد الّذي أصدر الحكم على العبيد. تنجح شاليز في أن تصوغ – بدعم المشاهد وثقته – اتّهامًا صريحًا للشرطة والمحقّقين الّذين عملوا على استجواب العبيد، والقاضي تسفي سيچال الّذي أصدر الحكم عليه.

يصوّر الفيلم المحقّقين والقاضي بوصفهم متّهَمين يدافعون عن أنفسهم؛ فالقاضي لم يحكم ببراءة العبيد رغم عدم وجود أدلّة (…) في ما يتذرّع المحقّقان بـ (…) توقّف الآلة عن التسجيل عند الاستجواب…

يجلس العبيد كهلًا متعبًا أمام شاشة المخرجة الّتي تعرض عليه مقاطع من التحقيق معه، فيبدو أكثر انكسارًا وهو يستعيد شريط ذكريات مهينة ومؤلمة. يصوّر الفيلم المحقّقين والقاضي بوصفهم متّهَمين يدافعون عن أنفسهم؛ فالقاضي لم يحكم ببراءة العبيد رغم عدم وجود أدلّة، يحاول شرح موقفه، في ما يتذرّع المحقّقان ألبيرت أبوكسيس وحاييم ديدي بمختلف الذرائع، وعلى رأسها توقّف الآلة عن التسجيل عند الاستجواب، ويصمتان حين لا تجدي الكلمات نفعًا، أمام إصرار المخرجة على أنّ خللًا متعمّدًا وقع في عمليّة التحقيق وجمع الأدلّة وتوثيقها.

ينجح العمل في تأكيد أنّ روايات الشرطة الإسرائيليّة الاستعماريّة ليست محطّ ثقة دائمًا. لذا؛ تعتمد محاورة ممثّلي الشرطة والقضاء بزاوية وإضاءة وإخراج يجعلها تبدو استجوابًا، بالمقابل تعرض مقاطع من إعادة تمثيل الجريمة بسخرية مبطّنة؛ فهي تبدو كفيلم مؤلَّف من سيناريو سيّئ ومخرج أسوأ؛ فالأسئلة الموجّهة إلى العبيد في مسرح الجريمة المُدَّعى لا تنمّ عن أيّة رغبة في تقصّي الحقيقة، بل باجترار حبكة صيغت سلفًا تتّسم باللامنطق، والتنافر الحادّ بين أجزائها المختلفة.

 

’الشرّير‘ الفلسطينيّ

تتكرّر الحكايات الملفّقة للفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة عام 1948، وتولّد قضايا مشابهة عند الحديث عن قتل إسرائيليّين؛ إذ تنبري ثلاثيّة الشرطة والنيابة والمحكمة على اتّهام الفلسطينيّ المستعمَرْ، وتصدير رواية مقنعة للرأي العامّ الإسرائيليّ. لكنّ ضرورة فيلم كهذا وأهمّيّته، تكمن في تفكيك رواية الشرطة وجهاز القضاء، الّذين يبنون شخصيّة القاتل بما يتّفق مع الذهنيّة الإسرائيليّة الاستعماريّة الّتي وضعت مسبقًا تفاصيل شخصيّة ’الشرّير‘، ولا تزال تبحث عنه بين ظهراني الفلسطينيّين في كلّ مناسبة.

هل نستغرب كيف توقّفت الكاميرات في زقاقات القدس عن العمل عند استشهاد محمّد العصيبي، أو تضارب التصريحات الشرطيّة بشأن حادثة محمّد أبو جابر؟ فالتحايل الاستعماريّ على الحقيقة وتفاعل الرأي العامّ يبدآن من بثّ التصريحات؛ عددها، والتضارب في ما بينها، ثمّ من خلال اتّهام المعدّات والأجهزة الّتي قد تتلف أو تتوقّف عن العمل. لطالما خدمت هذه الخدع المحقّقين وجهاز الشرطة الاستعماريّ؛ فهكذا يكون التنكيل بالأسرى خلال التحقيق معهم، إذ يُغَيَّب الواقع، وتُحَاك جريمة، ويُكْتَب اعتراف لم تسجّله الأجهزة.

 


 

سماح بصول

 

 

 

مواليد الرينة في الجليل. ناقدة سينمائيّة، وكاتبة في مجال الفنون البصريّة والأدب. تحمل شهادة البكالوريوس في«الأدب المقارن»  والماجستير في «ثقافة السينما». 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *