Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

هذا ليس معرضًا… إنّه انتفاضة لوحات

أحد أعمال «هذا ليس معرضًا»

 

مئات من اللوحات عبرت حدودًا قسريّة بين مدن فلسطين، حدودًا لا معنى حقيقيًّا لها لأنّها لم تنل يومًا من الامتداد الفطريّ، ما بين غزّة والقدس وبيت لحم وعكّا. لوحات وُلِدَت في مراسم تفتّحت على طول القطاع، وغادرت بيوتها كفتية بلغوا سنّ الرشد، فراحوا يبحثون عن بيوتهم الخاصّة، وتمكّنوا بجمال الشكل وقوّة المعنى من أن يغادروا مدنًا محاصرة بالاستعمار، فانطلقوا في رحاب فلسطين أحرارًا، وزيّنوا جدرانًا عدّة، ثمّ نزلوا عنها، وشدّوا الرحال نحو قاعة متحف توسّطها جسد الخراب، فتحلّقوا حوله يرثون مَنْ دُفِنوا، ويواسي بعضهم بعضًا.

هذا ليس معرضًا، بل انتفاضة ألوان، لمّ شمل مع الذكريات ومع الغائبين ومع المستشهدين، إعادة تركيب للتاريخ منذ نكبته، مرورًا بفقرات شكّلت عمود ثباته ووقوفه في وجه الاستعمار والعدوانات المتواصلة، رزنامة أفراحنا وأحزاننا وأعيادنا، ومواسم زيتوننا وبرتقالنا، ’كتالوج‘ لأثوابنا، وغرز إبرنا، وتكسُّر خيطاننا، ونسيج كوفيّاتنا، استعراض لإكسسوارات رؤوسنا وأيدينا، هذا ليس معرضًا، بل هو تكرار لا يملّ لتدرّجات الأزرق في سمائنا، وتموّجات البنّيّ في أرضنا.

 

شرود في بحر المجاز

هذا ليس معرضًا، بل شرود في بحر المجاز، وانتهال من أنهار القماش المزيّن بالأحداث والشخوص، واستشعار لبرودة العرق الّذي جفّ على جباه الفلّاحين، واستعادة لروائح الرماد والغبار المتفجّر من الأبنية الّتي كانت في ما مضى بيوتًا. هذا ليس معرضًا، بل اصطدام حادّ مع المفاجآت في التفاصيل، وصفعة تذكّرنا أنّنا نقف أمام لوحة قد يكون صاحبها الآن شهيدًا نقل صورًا للحياة الحقيقيّة والمتخيّلة، وقد يكون حيًّا مشاغبًا مشاكسًا مختلفًا يراوغ الطائرات المسيَّرة، ويبقى مختبئًا خلف ريشته الّتي لا تزال ترسم رموزًا تدفع بنا نحو المزيد من البحث في جزيئات الركام.

نقف متقابلين مع بعضنا بعضًا من إرث الشهيد فتحي غبن، وما تركته لنا الشهيدتان هبة زقّوط وشهد نافذ، وكأنّ هذا التجمّع الفنّيّ المهيب صلاة على أرواح الراحلين…

في حضرة هذه التظاهرة الفنّيّة، الّتي أبت أن تكون معرضًا اعتياديًّا، تتجمّع اللوحات بكثافة وكأنّها حالة نزوح، ومحاولة للبقاء، وأمل في الاستمرار. نقف متقابلين مع بعضنا بعضًا من إرث الشهيد فتحي غبن، وما تركته لنا الشهيدتان هبة زقّوط وشهد نافذ، وكأنّ هذا التجمّع الفنّيّ المهيب صلاة على أرواح الراحلين المتمّمين لواجباتهم الإنسانيّة. أمام هذه الأعمال الّتي أنتجها أصحابها على مدار سنوات، عرف بعضها الحرب والحصار، وعرف بعضها الآخر ظروفًا أفضل، لكنّ كلّ تفصيل في كلّ لوحة يبدو الآن حاضرًا قويًّا، مناسبًا، مهمًّا، معبّرًا محدّثًا عن التاريخ والحضارة والموروث والنضال والأمل.

إنّه من الصعوبة احتواء كلّ التفاصيل المتناثرة بأناقة على جدران قاعة العرض، تنوّع الأساليب وتكاثر الأطر وتزاحم الخطوط وتعدّد أصحابها، لكن ما من شكّ في أنّ ثمّة ما يستولي على النظرتين الأولى والثانية، يستميل القلب، ويستفزّ العقل، ويستوقف الجسد لحظات طويلة جاعلًا العين تزيد في التمعّن، خاصّة أنّ أصوات طائرات تدوّي في فضاء القاعة، وبدت لي كصوت الطائرات الّتي تنثر المبيدات فوق الحقول في مرج ابن عامر، لكنّها في حضرة الهمّ الغزّيّ لا يمكن إلّا أن تكون أصوات طائرات تقصف كلّ ما نبت فوق سطح الأرض.

 

أكله الذئب

استوقفتني في هذا الفضاء الّذي يفوق القدرة على الاحتواء ثلاث لوحات، اللوحة الأولى للفنّان محمّد السمهوري، وأيقظت في ذهني الآية القرآنيّة {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُون} (سورة يوسف: آية 14). هذه اللوحة الّتي تحمل على راحتيها بعضًا من الأطفال بملابس ملوّنة لطيفة، وكأنّهم خارجون توًّا من فرح اللعب والقفز بعيدًا عن جدران المنازل، لكن على طرف اللوحة الآخر يتربّص بهم ذئاب ذات أقدام بشريّة تلوّنت بالضبابيّة والعتمة. يقف هؤلاء الأطفال سدًّا بين الذئاب والبيوت، ويدفعون الناظر إلى السؤال عن مصيرهم “أكلهم الذئب”.

 

 

وإن كان الذئب ذو القدم البشريّة قد أكل أطفالًا فإنّا، إذن، لخاسرون، وعاجزون، نتابع مصير هؤلاء الأطفال، ومثلهم عشرات الآلاف عبر البِكْسِلات الملوّنة المتدافعة المعزّزة بصوت المراسل الصحافيّ. ذئاب كثيرة حاصرت أطفالًا، وتحلّقت حولهم آتية من البرّ والجوّ والبحر، حاصرتهم ولم يعودوا في مأمن قطّ. قد أتت من قِبَل بعض الذئاب في قصص القطاع السابقة، وإن كانت قد غادرت فقد تركت وراءها ظلًّا رماديًّا خانقًا جاثمًا فوق صدور الأطفال الناجين، فكبروا محاطين بالعتمة.

قطعت حرب الإبادة الهواء عن مدن القطاع ومخيّماته، قطعت الأوكسجين عن حيوات لا تُحْصى، وكان من بينهم الفنّان فتحي غبن.

في اللامعرض تقف إحدى لوحات غبن حاملة ذكراه الجماليّة الخالدة، تصوّر فتًى مصابًا حاملًا حجرًا علّه يدافع به عمّن شكّله وجعل له قضيّة يعيش ويتألّم من أجلها. في هذه اللوحة الّتي تفيض نارًا، يضع الشهيد غبن فتاه الحيّ في مقدّمة النضال، جنديًّا صغيرًا ساحرًا يقف فوق رمال شقّتها آثار همجيّة المركبات العسكريّة، بقدمين عاريتين، وثياب تشي بالصيف، ويد مكسورة. في هذه الحالة من العناد تورّث المقاومة، حينما لا تكسر الإصابات نفوس الصامدين، في هذه الحالة من الفنّ توثيق لموروث متناقل بين الأجيال متّفق عليه. أمّا في الخلفيّة فقد اختار الفنّان وجهًا آخر للحياة، رجل وامرأة قد يكونان شريكين في حلقة دبكة، ينظر كلٌّ منهما نحو الآخر، غير مكترثين لما يدور في مقدّمة اللوحة، وكأنّهما يحتميان بعنفوان جارف للجيل الجديد، ولربّما ينفعلان لمرأى عدوّ يتراجع منكسرًا أمام الإصرار بعد أن أعاد المقاتل الصغير يده  المتكوّرة حول الحجر إلى مكانها، وكأنّه نال مراده، عدوًّا هم يرونه ونحن لا نراه، فيغتبطان، وقد تكون هذه رقصة الموت حين يراوغ الحيّ قدره، محاولًا التشبّث بالقليل المتبقّي من الهواء في الرئتين المتهالكتين، وقد تكون رقصة النار عندما يقف التراث هو الآخر سدًّا منيعًا، يستعرض قواه أمام خصم تداعت قواه.

على الحائط المقابل لغبن والسمهوري، وُضِعَتْ لوحة لهاني زعرب تفرّدت عن سابقتيها في الأسلوب والتقنيّة، وكانت، لولا هول ما رأيناه مؤخّرًا، تبدو مشاغبة مغايرة جريئة لا مثيل لها بين زميلاتها، لكنّ هذا الجسد الذكريّ العاري، الّذي اتّخذ لنفسه مكانًا يمتدّ من مركز اللوحة إلى زاويتها اليمنى، يروي على أبصارنا روايتين.

قد تكون هذه رقصة الموت حين يراوغ الحيّ قدره، محاولًا التشبّث بالقليل المتبقّي من الهواء في الرئتين المتهالكتين…

قد يكون هذا الجسد الرماديّ استنساخًا لـ «تمثال أبولّو»، الّذي جعل من شاطئ غزّة حكاية، ومن صيّادها نجمًا، واجتذب المهتمّين ليروا أنّ غزّة ليست في اللامكان، بل حاضنة للتاريخ والحضارة. وفي رواية أخرى أكثر قربًا إلى واقع الإبادة المتواصلة، يتحوّل هذا الجسد إلى نموذج عن مئات المعتقلين الّذين عرّى الاستعمار أجسادهم، وغطّى عيونهم، وقادهم إلى الظلمات، وقد يكون كناية عن جسد توارى بين الأنقاض الأسمنتيّة واكتسى برمادها، واستقرّ به الحال على وضعيّة الممدَّد الّذي استرخى وتهيّأ للمغادرة، نافضًا عن جسده كلّ ما كساه، وكأنّما يتقصّد كشف عورات كلّ مَنْ خذلوهه. انبطح رافعًا قدميه باستهزاء في وجه كلّ مَنْ انتقوا مفردات تشي بالهوان والانبطاح، وهو محاط بهالة ألوان اعتلى بعض زواياها الصدأ، راميًا إلى كلّ ما صدِئ واهترأ من أشكال التضامن.

 

رواية كُتِبَتْ بالأكريليك

على مرّ التاريخ، حرص كلّ استعمار على سرقة الفنّ أو تدميره أو سلبه من أصحاب الأرض؛ لأنّ المادّة الفنّيّة، لوحة كانت أو مجسّمًا أو حتّى قصيدة، هي التوثيق لفعل الاحتلال وبطشه وجرائمه مقابل صمود المستعمَرين، والاحتلال المفروض على القطاع الساحليّ يعي تمامًا أنّ للخطّ واللون والكلمة قوّة تقف بندّيّة أمام الرصاص، كما تتحدّى الحياة الموت، وتعي القوّة الكامنة في رواية كُتِبَتْ بالأكريليك والزيت والحبر، لذا؛ لن يكون مفاجئًا السطو على المراسم، وكلّ بقعة يمكن أن تحتمي فيها لوحة أو تمثال.

إنّ خيار جمع أعمال تتفاوت في كلّ تفاصيل خلقها ونشأتها، وقبول الأفراد والمؤسّسات وإقبالهم على المشاركة وتقديم اللوحات، هو تجسيد لهمّ جمعيّ يفوق بهوله كلّ ما عرفناه حتّى اليوم من معنى الفنّ، هو الحاجة إلى الانتماء، هو الخوف من الزوال، هو الإصرار على البقاء، هو حبّ لشيء ما خفيّ.

 

 

قد يفرض الموت حالة من الوجوم، والموت المتراكم ما بين بيت حانون ورفح يفرض حالة من الخَرَس، لكن كلتا الحالتين تتبدّدان بفعل قوّة الحياة، ويلقى كلّ ما يبدو للوهلة الأولى عديم النفع ما يليق به من الحضور والهيبة. تهب الحياة الفنّ أبعادًا تتخطّى ما كان يُظَنّ أنّه الترف، ويصبح كلّ منتج فنّيّ شهادة ميلاد صاحبه وسيرته الذاتيّة. لم يكن الفنّ في فلسطين يومًا على هامش النضال، بل كان حصنه ولسانه وعينيه، تعدَّد وتكاثر وتطوّر لمنح تاريخ النضال سمة الأبد.

«هذا ليس معرضًا» – لوحات فنّانين غزّيّين في المتحف الفلسطينيّ، بالتعاون مع «محترف شبابيك للفنّ المعاصر»، و«مجموعة التقاء للفنّ المعاصر» في قطاع غزّة.

 


 

سماح بصول

 

 

مواليد الرينة في الجليل. ناقدة سينمائيّة، وكاتبة في مجال الفنون البصريّة والأدب. تحمل شهادة البكالوريوس في«الأدب المقارن»  والماجستير في «ثقافة السينما». 

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *