Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

غزّة الّتي يحكمها الفدائيّون ليلًا

أطفال فلسطينيّون يرفعون العلم ويرشقون الاحتلال بالحجارة، الانتفاضة الأولى، 1987 | Getty.

 

المصدر: «مجلّة العربيّ».

الكاتب: محمّد الفرا.

زمن النشر: 1 شباط (فبراير) 1973.

العنوان الأصليّ: «غزّة».

 


 

تقترب السيّارة من قطاع غزّة، فتمتزج مختلف المشاعر؛ فتارة ينتاب المرء قلق وحذر، ويسيطر عليه أحيانًا شعور بالرهبة والحنين. قلق على مستقبل هذا القطاع وعروبته ومصيره، وحذر من النيّات المبيّتة للقطاع وما تحاك ضدّه من خطط في العلن والخفاء. وحنين إلى لقاء قومه وأهله وذويه، فرّقت بينه وبينهم أهوال الزمان، ونكبة الحدثان، ومصيبة من صنع بني الإنسان. ورهبة ممّا يُسْمَع ويُرى عن بطولات هذا الشعب وصموده، حتّى كأنّهم صخرة لا تلين، ذات عزيمة لا تفتر ولا تستكين. إنّ أهل غزّة بكفاحهم هذا يصنعون الأحداث، بها استطاعوا أن يلفتوا إليهم أنظار العالم، وينتزعوا الإعجاب والإكبار من العدوّ والصديق على حدّ سواء، فلا عجب أن ترى اليوم اسم غزّة على كلّ لسان وتتناقله جميع وكالات الأنباء.

 

الطريق إلى غزّة

تمرّ السيّارة من جسر كان يُطْلَق عليه «جسر اللنبي»، فأصبح اليوم بحقّ جسر الهموم والأحزان، لأنّه يفرّق بين البلد الواحد والشعب الواحد، فيرى المسافر على جنبات الطريق قرى ومدنًا كانت مهدًا وموطنًا لعرب فلسطين، منذ كانت في سابق الأزمان، ولكنّ اليوم آثارها قد طُمِسَتْ، ومعالمها قد أُزيلَتْ، وأُقيمَتْ على أنقاضها مستوطنات ومدن وقرى، أنشأها أقوام غرباء عن الديار، وأطلقوا عليها أسماء لا تمتّ إلى واقع البلاد بصلة، ويسكنها أجناس من البشر مختلفون في سحنهم وأشكالهم ولغاتهم وثقافاتهم، ولكنّهم تجمّعوا تحت هدف واحد: هو طرد العرب من بلاد هي للعرب منذ الأزل.

ويسير المرء من أريحا إلى غزّة دون أن يعترضه معترض، أو يقف في طريقه حائل، اللهمّ إلّا ما ينتابه من شعور بالحسرة والألم، وهو يرى المروج الخضراء والأرض الطيّبة الّتي كانت له يومًا، فأصبح، ولسخرية الأقدار، غريبًا عنها شريدًا طريدًا لا يلوي على شيء.

 

غزّة حزينة

وما أن تقترب السيّارة من مشارف غزّة حتّى يلمس المرء تبدّل الحال، إذ تقف عند نقطة الحدود، فيقترب الجنديّ بسلاحه ونظرة القلق والحذر يرشقها كسهام مسمومة من عينيه إلى مَنْ في السيّارة من ركّاب.

ونصل غزّة فنحزن، لِما نرى من أطلال وبيوت مهدّمة كانت بالأمس عامرة، وننظر فإذا بالشوارع ساعة الغسق خالية من المارّة، فالكلّ يسرع الخطى إلى بيته حتّى لا يتعرّض لرصاص من بنادق دوريّات الجنود لا ينقطع، أو حتّى لا يخضع لاستجواب يليه اعتقال لا يُعْرَف له بداية من نهاية.

ويصبح الصبح، فنرى غزّة في وضح النهار، فإذا بها كالحة حزينة، وكأنّها تندب حالها وحظّها العاثر، وتبكي مستقبلها الضائع. وكأنّ التاريخ قد تنكّر لها، وهي المدينة العريقة ذات المجد التليد والتاريخ الحافل المجيد. وتزور مدن القطاع وقراه من خان يونس إلى دير البلح ورفح، فتراها جميعًا غير ما كانت عليه بالأمس؛ فرفح أصبحت اليوم معقلًا للفدائيّين، وكذلك مخيّم جباليا وبقيّة المخيّمات مثل الشاطئ بغزّة والبريج والنصيرات في وسط القطاع.

 

اقتصاديّات القطاع: الزراعة

يتألّف قطاع غزّة من أراضٍ ساحليّة تطلّ على البحر المتوسّط، ومعظمها مكوّن من تلال وكثبان رمليّة هي امتداد لصحراء سيناء والنقب. ويكثر فيها مكوّنات من الجير، لذلك فهي فقيرة عمومًا في الموادّ العضويّة اللهمّ إلّا في بعض المناطق البعيدة عن البحر نحو ثلاثة كيلو مترات. هذا وتزداد خصوبة التربة كلّما اتّجهنا شمالًا، ويصبح لونها شمال غزّة أحمر، وتكثر نسبة الطين والصلصال بفضل رواسب بعض الوديان والمجاري المائيّة الّتي تمتلئ بماء المطر شتاءً، وهو قليل لا يزيد على 500 مليمتر سنويًّا، في ما عدا بعض السنين الشاذّة حيث يصل إلى 600 ميليمتر. ويبدأ فصل الشتاء من أوائل تشرين الثاني (نوفمبر)، ويستمرّ بصورة متقطّعة حتّى نيسان (أبريل). والمطر متذبذب في كمّيّات سقوطه وفصليّ، وذلك بحسب مسار الانخفاضات الجوّيّة والأعاصير الّتي تسوقها الرياح الغربيّة، وهذا ما يميّز مناخ البحر المتوسّط.

ومحاصيل القطاع التقليديّة هي الحبوب، مثل القمح والشعير والذرة، وقد اشْتُهِرَتْ غزّة في الماضي بوصفها ميناء لتصدير الشعير إلى أوروبّا.

وبجوار مدينتيّ غزّة وخان يونس تكثر زراعة الخضراوات الّتي تُسْقى بمياه الأمطار شتاء، ومياه الآبار العميقة صيفًا، والّتي وصل عمقها إلى أكثر من عشرين مترًا أحيانًا، ويُسْتَخْرَج ماؤها بواسطة الموتورات والمضخّات.

وكانت مدينة خان يونس وما حولها تمدّ يافا ومدن فلسطين الوسطى بكمّيّات كبيرة من الخضراوات يوميًّا. هذا ويُزْرَع في القطاع الفواكه بأنواعها. وعلى ساحل البحر المواجه لمدينة خان يونس، تكثر زراعة الخضار والفاكهة بحيث لا تبعد عن مياه البحر المالحة إلّا بضعة مئات من الأمتار؛ فالماء الحلو العذب لا يبعد عن سطح الأرض أكثر من متر أو مترين فقط، ويُطْلِق الأهالي على هذه المزارع ’المواصي‘، وهي حدائق جميلة يؤمّها كثير من الناس من مختلف مناطق القطاع للبهجة والاستمتاع.

وعلى أثر انكماش حدود قطاع غزّة وفقدانه معظم أراضيه الزراعيّة في يد العدوّ، عمل السكّان على استغلال كلّ شبر؛ فظهرت الزراعة الكثيفة ونشطت زراعة الحمضيّات وطفت على زراعة الحبوب والخضراوات؛ فبلغت المساحة المزروعة بالحمضيّات عام 1967 نحو 65 ألف دونم، أي نحو 40% من المساحة المزروعة والبالغة 170 ألف دونم تقريبًا. وتُعْتَبَر الحمضيّات من أهمّ صادرات القطاع، إذ بلغ ما صدّره عام 1965 حوالي 1300000 صندوق بلغ ثمنها 2600000 جنيه مصري.

ولعلّ ما يلفت النظر هذه الأيّام هو كثرة إنشاء المستوطنات الإسرائيليّة على أراضي قطاع غزّة، والمستوطنات تُقام على أجود الأراضي الزراعيّة. وأوّل إجراء يجري في هذا الشأن هو تحديد هذه الأراضي المطلوبة، ثمّ تسوّر بالأسلاك الشائكة بعد طرد أصحابها منها، ويكون موقف الإسرائيليّين تجاههم بحسب نوع ملكيّتهم لهذه الأراضي؛ فإن كانت أيّام العهود العثمانيّة – أي قبل أكثر من سبعين عامًا – سلطانيّة (أي حكوميّة)، صودِرَتْ دون تعويض على الرغم من اكتسابهم لهذه الأراضي بحقّ الزراعة منذ العهد البريطانيّ، وهذا قانون تعترف به كلّ دول العالم. أمّا إن كانت الأراضي مثبتة لمالكها في سجلّات «دائرة الأملاك» (الطابو)، وخارج الأراضي السلطانيّة، فإنّهم يضعون عليها اليد أيضًا، ولكن في هذه الحالة يدفعون لصاحبها مبلغًا تافهًا، وذلك على أساس قيمة الأرض المسجّلة قبل خمسين عامًا، يوم أن كانت بورًا مهملة غير مستصلحة، وكان ثمنها زهيدًا. وكان الأهالي آنذاك يخفضون من قيمة أراضيهم في السجلّات الرسميّة حتّى يقلّلوا مقدار الضرائب المفروضة عليهم.

وللأسف، فإنّ معظم الأشجار المثمرة قد اجْتُثَّت لبناء المستوطنات، فخسر القطاع بذلك أجود أراضيه وأصبحت عروبته في خطر.

 

الصناعة في قطاع غزّة

يعتبر الفخّار (الخزف) من أهمّ صناعات غزّة التقليديّة الّتي أكسبتها شهرة قديمة، وذلك لتوفّر الطين الملائم لهذه الصناعة في المدينة. ويحرص الغزّيّون على الحفاظ على هذه الصناعة باعتبار أنّها جزء من تراثهم الشعبيّ، ومن الطريف أنّي تقابلت مع أحد أبناء القطاع في مطار لندن، وهو في طريقه إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، يحمل إبريقًا فخّاريًّا أسود اللون، وطبقًا فخّاريًّا (زبديّة)، كهديّة طلبها منه أخ له في المهجر الّذي لا يستطعم أكل السلطة بالفلفل (الدقّة) إلّا في زبديّة غزّة، ويحنّ إلى شرب الماء في إبريق وطنه. وكان هذا مثار فضول رجل الجمارك في المطار.

ومن صناعات غزّة القديمة صناعة النسيج الّتي كانت تُدار بالنول اليدويّ، ثمّ تأسّست أوّل شركة تعمل بالأنوال الآليّة في أواخر الاستعمار البريطانيّ على يد المرحوم السيّد جعفر فلفل، أحد مؤسّسي «شركة المنار».

ولقد ازدهرت هذه الصناعة مؤخّرًا بعد هجرة أبناء المجدل الّذين اشْتُهِروا بها، وكانت الأنوال والخيوط النسيجيّة في كلّ بيت، بل تُدار في الشوارع، وعلى قارعة الطريق، ممّا وفّر للقطاع منسوجات قطنيّة وحريريّة بأسعار رخيصة. وبعد عام 1948، قامت في غزّة صناعات كثيرة، أهمّها السجائر والطباق والصابون والحلويّات والمياه الغازيّة والثلج، وقد أُقيم مؤخّرًا مصنع في غزّة لتشميع البرتقال المصدّر للخارج. هذا وفي الستّينات نشطت صناعة حياكة الملابس الجاهزة وصناعة الأحذية المطّاطيّة الّتي كانت تصدّر لمصر والسعوديّة. وتسعى السلطات الإسرائيليّة اليوم بشتّى السبل لقتل هذه الصناعات الوطنيّة حتّى يصبح القطاع مستهلكًا للمنتجات الإسرائيليّة ويضطرّ المواطنون إلى الاشتغال كعمّال في المصانع اليهوديّة.

 

قطاع غزّة صخرة الكفاح والنضال

لقد حارت إسرائيل في أمر غزّة وقطاعها، فسلكت أسلوب الترغيب في البداية علّها تكسب ودّ السكّان، فأغرت العاطلين بالعمل والأجر المغري، ووعدت السكّان بإصلاح حال القطاع وإقامة المشاريع فيه وفتحت لأهاليه حدود إسرائيل لينتقلوا إلى حيثما يشاؤون. ولم تنجح هذه السياسة فكشّرت إسرائيل عن أنيابها، وسلكت أسلوب البطش والإرهاب والتنكيل، وصار الجنود يطلقون الرصاص لأقلّ شكّ في الأمر، ويدخلون البيوت في الليل دون استئذان بسلالم يتسلّقون بها الجدران وينفذون من الشبابيك إلى غرف النوم والناس نيام، بحجّة البحث عن الفدائيّين، وساقوا الشباب زمرًا إلى السجون لأقلّ ارتياب في سلوكهم.

ومنع الأهالي اليهود من دخول قطاعهم بإلقاء القنابل على سيّاراتهم، حتّى منعت إسرائيل رعاياها من دخول مدن القطاع وقراه حفاظًا على سلامتهم. وأخيرًا، أقدمت على تنفيذ مخطط يرمي إلى ترحيل أعداد كبيرة من السكّان خارج القطاع بغية تخفيف كثافته السكّانيّة، ظنًّا منها بأنّ سبب المقاومة يكمن في الزيادة السكّانيّة. ونتيجة لذلك، هدمت إسرائيل كثيرًا من المنازل في مخيّمات اللاجئين، وعلى الأخصّ مخيّم جباليا (ويُعْتَبَر اليوم أكبر مراكز المقاومة والبطولة في القطاع)، بحجّة شقّ الطرق وتوسيعها حتّى تتمكّن الدوريّات الّتي لا تسير إلّا في دبّابات ومصفّحات من المرور ليل نهار. وأقفلت منافذ الشوارع الفرعيّة في المدن بالجدران العالية، حتّى تحول دون تمكّن الفدائيّين من إلقاء القنابل منها على الدوريّات وهي تسير في الطرق الرئيسيّة. وها هي ذي اليوم تسعى لتفريغ مخيّمي رفح وخان يونس للّاجئين من السكّان.

ولم تنجح إسرائيل في تنفيذ مخطّط تفريغ القطاع من سكّانه، وذلك بفضل صمود أبنائه، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها أنّ عائلة أصرّت على عدم الخروج من مسكنها رغم تحذير اليهود لهم بنسف المنزل، فما كان من ربّ الأسرة إلّا أن قال إن كان أمر النسف سيتمّ فليكن نحن والبيت معًا. ومثال آخر نسوقه هو أنّ قوّات الاستعمار نسفت أحد المساكن وأجبرت سكّانه على مغادرته إلى مكان آخر أعدّته لهم، فما كان من أفراد الأسرة إلّا أن عادوا بعد مدّة بسيطة فأقاموا فوق مسكنهم المنسوف، ووضعوا بطّانيّات على أعمدة لتقيهم من حرارة الشمس، وليثبتوا لقوّات العدوّ أنّ التخلّي عن الوطن مستحيل.

إنّ مثل هذه الأعمال جعلت أحد الصحافيّين العالميّين يقول بعد أن زار القطاع ما يلي: “إنّ قطاع غزّة يحكمه الإسرائيليّون نهارًا ويحكمه الفدائيّون ليلًا”.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة – ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *