Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

تغيّر التقييمات وضياع الطعم والمعنى- الكتابة نموذجًا

مخيّم جباليا، الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة | يحيى حسّونة، Getty.

 

تساؤل جرّاء الحرب

هل للأمور والنشاطات الاجتماعيّة والأشياء قيمة وتقييمات وطعم ومعنًى قائمة بذاتها؟ أستعمل في السؤال مفردات عامّة الدلالة جدًّا؛ لكي تشمل كلّ ما يخطر بالبال ويندرج تحتها. عادة، عدا القوالب الكلاميّة الّتي تشكّل فيها كلمتا ’الشيء‘ و’الأشياء‘ جزءًا لا يتجزّأ، أكاد لا أستعملهما، أوّلًا للعنصر المبهم فيهما، ثانيًا نظرًا إلى نزع الفاعليّة عنهما، وثالثًا لتسميتي المسمّيات بأسمائها المعهودة أو المستجدّة. أمّا هنا، وبغرض التركيز على شموليّة الأشياء كما الأمور والنشاطات الاجتماعيّة، فقد وجدتها الأنسب. والإنسان – ذكرًا أو أنثى – حاضر في السؤال بمحض صلاته بالأمور الحياتيّة، وقيامه أو عدم قيامه بالنشاطات الاجتماعيّة أو خضوعه لها، وامتلاكه أو عدم امتلاكه للأشياء. يشغلنا السؤال أعلاه طوال الوقت، بيد أنّه يلحّ علينا في سياقات محدّدة، وكم بالحريّ في الحرب! وكم بالأحرى في الحرب الإباديّة على قطاع غزّة!

 

الإجابة عن التساؤل

والسؤال يستبطن الإجابة: لا قيمة ولا تقييمات، ولا طعم ولا معنًى، قائمة بذاتها للأشياء والأمور والنشاطات الاجتماعيّة. جميعها نسبيّة، متغيّرة، وقد تقف على طرفَيْ نقيض، إذ هي تتعلّق بالظرفَين المكانيّ والزمانيّ، وبالحالة الاجتماعيّة، وبالسياق الّذي بضمنه نقيّم الشيء أو الأمر أو النشاط الاجتماعيّ، وبالتأكيد بالجهة أو الجهات البشريّة ذات الصلة، الفرد والجماعات الاجتماعيّة بأنواعها. ذلك سلبًا وإيجابًا. على مستوى ’الأشياء‘، كسرة الخبز رمز الضآلة في الوضع ’الطبيعيّ‘ في كلّ الثقافات، باتت ضالّة أهل غزّة الواقعين والواقعات تحت سياسة التجويع الإجراميّ منذ نحو ثمانية أشهر. أكبر الماسات وأثمنها لا تسوى ولا تساوي شيئًا في يد مَنْ ضاقت بنجاته السبل. ينسحب ذلك ليس فقط على الأشياء المادّيّة بل على الأمور والنشاطات الاجتماعيّة جميعها. وستحظى الكتابة باهتمامنا في القسم الأخير من المقال. تُسْتَثْنى من ذلك قيم إنسانيّة وجوديّة تسمو على النسبيّة والسياقيّة. لكن حتّى هذه لا تصمد في سياقات بعينها!

لم يبقَ شيء، أمر، أو نشاط اجتماعيّ لم ينقلب تقييمه ولم تُعْكَس قيمته، ولم يتغيّر طعمه ومعناه، بصرف النظر عن اتّجاه التغيير والانقلاب والعكس!

بعض الناس يَخْبَرُ هذه القواعد الحياتيّة في حياته الجارية، وتُسْتَنْفَر خبرته بها إذا استدعى الأمر. البعض الثاني من البشر ينكشف للقاعدة تحت ظروف استثنائيّة، والبعض الثالث قد يغفلها بالمطلق، فتستمرّ تقييماته للأشياء والأمور والنشاطات رتيبة.

استحضرت الحرب الإباديّة الجارية على قطاع غزّة منذ البداية السؤال الّذي افتتحنا به هذا النصّ، وهو سؤال واحد ضمن أسئلة جمّة، كما استحضرت الإجابةَ عليه وإجابات كامنة أخرى. لم يبقَ شيء، أمر، أو نشاط اجتماعيّ لم ينقلب تقييمه ولم تُعْكَس قيمته، ولم يتغيّر طعمه ومعناه، بصرف النظر عن اتّجاه التغيير والانقلاب والعكس! فإذا كان قد انقلب التقييم والقيمة في صالح كسرة الخبز في غزّة، فإنّ تقييم حياة الإنسان الغزّيّ وقيمتها انقلبا ضدًّا في الحرب الجارية.

 

المخزون لا يُسْعِف

لم تستنفر الحرب على قطاع غزّة نسبيّة القيمة والتقييمات، كما مثّلنا لها أعلاه، بل استنفرت أيضًا معرفتَنا ومداركنا ووجداننا ومخزوننا، بكلّ ما تشتمله هذه ممّا اكتسبناه وما اعتقدناه وما ذوّتناه، سواء بشكل نقديّ واعٍ، أو بشكل سليقيّ غير واعٍ، أو نتيجة قمع وقهر.

إنّه استنفار للقيم والمعايير، ووحدات القياس من كلّ صنف، للشرّ والخير، ’للمفهوم ضمنًا‘، ولما هو موضع مساءلة، للمعقول وغير المعقول، للإنسانيّ والبهيميّ والشيطانيّ… كلّها لم تُسْعِفْنا في التعاطي المُرضي الكافي مع حالة لم يسبق أن شهدنا مثيلتها في التصاعد والشراسة. أكتب “لم نشهد”، بمعنى لم نعايش معايشة حيّة. نحن بصدد حالة وجوديّة غير مسبوقة في مجمل ملابساتها الحيثيّة، وتعاطي الجهات المتداخلة من قريب أو بعيد معها، وفي جميع المستويات الفرديّة والجماعيّة، الإقليميّة والدوليّة والعالميّة. لقد فقدنا الأدوات المؤهّلة للتعاطي معها، سواء على مستوى الإدراك، لأوّل وهلة، أو على مستوى الفعل. الكلمات هي الأداة الأولى، الّتي عجزت عن صوغ المشاعر والأفكار حول ما شهدنا ونشهد، والمواقف ممّا شهدنا ونشهد. هذا هو النموذج العامّ، وثمّة فوارق تُسَجَّل بين الفئات المختلفة والأفراد المختلفين وقراءتهم وتعاطيهم مع المرحلة، علمًا أنّ الغمامة قد أُميطت عن عيون قطاعات واسعة ومداركها، فوضعت الحالة في نصابها، وأدركت كما لم تدرك عندها من قبل. ومهما كان، فإنّ الحالة أسّست وتؤسّس لمرحلة جديدة في كلّ جانب. لكنّي سأستمرّ في هذا المقال في التركيز بالقراءة الحسّيّة والشعوريّة لها، ومن أقرب الدوائر إلى الفرد.

 

ضياع الطعم والمعنى

في الحالة والسياق هذين، لم تختلف قيمة الأشياء والأمور والنشاطات الاجتماعيّة وتقييمها فقط، بل ضاع طعمها ولونها أيضًا، واختلفت تدريجاتها في حساب الأولويّات؛ فلا القهوة، مهما كان صنف قهوتك المفضّلة ومواصفاتها، ولا الطعام والشراب والملبس، ولا الموسيقى، ولا السمر، ولا السفر، ولا السُّفَر، احتفظت بطعمها المعهود، وبمكانتها في سلّم أولويّات أحدنا أو إحدانا. أساسًا تغيّرت منظومة الرغبات الحياتيّة، فمَنْ ذا يستسيغ الحياة، رتابتها أو ملذّاتها، والموت والإبادة يعربدان، وفي حيّز أقرب ما يكون جغرافيًّا وبشريًّا؟

في الأصل، مَنْ يمتاز بحسّ إنسانيّ وأخلاقيّ، في الحدّ الأدنى المطلوب للإنسانيّة، لا يسعد أو يتلذّذ، أقلّه يصعب أن يسعد أو يتلذّذ، في العيش في وسط تَعِس، وهو لا يهنأ بالنجاح وسط فشل الآخرين والأخريات، وقِسْ على ذلك. الحرب العدوانيّة الشرسة إنّما تفاقم هذا الحسّ، وتحفّز على إفاقة الحسّ الغاطّ في سبات. إذا كانت الأمثلة الآنفة الذكر عن اختلاف القيمة والتقييم والطعم والمعنى والأولويّات أساسيّة مشتركة بين كلّ الفئات، ومادّيّة النوع، ففي قسم تالٍ سأتوقّف عند مثال من نوع آخر: الكتابة.

تغيّرت منظومة الرغبات الحياتيّة، فمَنْ ذا يستسيغ الحياة، رتابتها أو ملذّاتها، والموت والإبادة يعربدان، وفي حيّز أقرب ما يكون جغرافيًّا وبشريًّا؟

 رسْم خطّ واصل مباشر بين الحرب والوباء، من حيث الآثار والتبعات، ليس مقنعًا تمامًا بل إشكاليًّا. بيد أنّنا نحتاج بعض التبصّرات عن الوباء في مقاربة الحرب على قطاع غزّة. خَبِر العالم كورونا الّتي اجتاحته في السنوات الأخيرة (2020 – 2022) فشلّته عن حركته، ما لم يخبره من قبل، سقط ضحيّته موتى بأعداد لمّا تُسَجَّل بعد، وفرض عزلة اجتماعيّة على الناس، وما زالت تجربته حيّة في الأذهان بكثير من الفزع والضبابيّة والتبعات. خرج العالم من وباء كورونا بتبصّرات مختلفة لكنّها مكمّلة. يهمّنا منها ثلاثة هنا؛ التبصّر الأوّل إدراك أنّ مصيرًا واحدًا ينتظر العالم أمام مصادر وقوى تهديد عظيمة، الثاني أنّه في ظروف الوباء أيضًا للفئات الاجتماعيّة المختلفة جغرافيًّا وطبقيًّا وإثنيًّا (عنصريًّا وقوميًّا)، احتمالات متفاوتة للإصابة بالوباء، ومن الإخضاع والإشراف اللّذين تمارسهما السلطات ذات الصّلة على الناس خلال الوباء، ولها حظوظ تفاضليّة من العناية، أمّا التبصّر الثالث الّذي يعنينا هنا فهو العلاقات الوطيدة بين المال والمعرفة والسياسة، وجميعها حقول قوّة. استفاد رؤساء الأموال، ومراكز البحث، وشركات الأدوية الكبرى، من الوباء، إلى درجة شيوع فكرة أنّ فيروس كورونا جرت هندسته في مختبرات، هو ومتحوّلات أخرى لاحقة؛ بغية نشره المقصود الرامي إلى كسب الأرباح وهندسة العالم ديموغرافيًّا. الوباء والحرب يشتركان في جميعها، لكنّ الوباء لم يكن بفعل فاعل، على الأقلّ حسب إحدى الفرضيّات، ولم يكن ’مفتاح‘ إيقافه بأيدي جهة أو جهات ما مِنَ العالم، وهو ليس الحال في الحرب على قطاع غزّة.

 

الحظر والإخراس

منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، ومنذ اللحظة الأولى للحرب العدوانيّة على قطاع غزّة، وللحالة العامّة الّتي أنتجتها هذه الحرب؛ طفت على السطح تساؤلات حول ممارسات آمنّا بها، بسذاجة أو بغير سذاجة، بفاعليّتها وبضرورتها دائمًا، وباعتبارها القنوات والطرق الحضاريّة الأرقى للتعبير عن الرأي والموقف ووجهة النظر، كالممارسات الفرديّة والجماعيّة الّتي هي كُنْه الديمقراطيّة، كالمظاهرات والاعتصامات والعرائض الموقّعة، والأعمال الفنّيّة والإبداعيّة الأخرى، وغيرها، حُظِرت.

من أهمّ أدوات النقاش الكلمة، المنطوقة والمكتوبة. أُخْرِسَت الكلمة المنطوقة والمكتوبة في أيّ إطار كان، بما في ذلك في أماكن العمل والتعليم، الّتي تستدعي التعاطي مع أحداث الساعة بين الزملاء، أو تستدعي التعامل معها تعليميًّا أو تربويًّا. تحوّلت الأطر الاجتماعيّة الواقعيّة، والأطر الافتراضيّة، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، إلى مساحات رقابة وقمع في أيدي الشرطة ومؤسّسات الأمن، وحتّى الأفراد المدنيّين. هدفت الرقابة والقمع إلى إخراس أيّ صوت لا يمثّل الصوت المركزيّ المسيطِر المهيمن، وهو بالطبع صوت الصهيونيّة التوسّعيّة والعسكرة الوحشيّة. حصل ذلك وما زال يحصل باستخدام وسائل القمع والترهيب المختلفة، من اعتقال طلبة جامعيّين، إلى إبعاد محاضِرات ومحاضرين، واعتقال بعضهم، واعتقال ناشطين واستدعائهم للتحقيق.

تساؤلات جوهريّة طفت وما زالت تطفو حول الديمقراطيّة، والحرب، والقوّة ومزيد من القوّة، والأخلاقيّات، والأكاديميا، وحول سيرورة العالم والمرحلة الّتي نحن بصددها، حول فلسطين القضيّة، وحول الإنسانيّة.

تساؤلات جوهريّة طفت وما زالت تطفو حول الديمقراطيّة، والحرب، والقوّة ومزيد من القوّة، والأخلاقيّات، والأكاديميا، وحول سيرورة العالم والمرحلة الّتي نحن بصددها، حول فلسطين القضيّة، وحول الإنسانيّة. رغم محاولات الإخراس، كان من السهل نسبيًّا إثارة التساؤلات حول المسائل الكبيرة هذه، فهي في نهاية المطاف خارجة عنّا، وتناولها يأتي من منطلق فكريّ. لذلك؛ كُتِب ونُشِر فيها خلال هذه الفترة، أو نُوقِشَت من زوايا مختلفة إلى حدٍّ ما من خلال مقالات، ومنشورات، وبودكاستات، أو وبينارات. وسُلِّط الضوء على الإسكات والإخراس والصمت في المنصّات المذكورة، وفي مواقع إلكترونيّة ثقافيّة مختلفة، كلاميًّا وكتابيًّا، نثرًا وشعرًا. ومع أنّ الانشغالَين الفكريّ والحسّيّ بهذه الموضوعات وأبعد منها، استحوذا عليّ وبقوّة لمرأى ما أمكنَتْ قدرة تحمّلي رؤيته وسماعه وقراءته، فقد كان أحد أوّل النصوص الّتي كتبتها، والنصّ الوحيد الّذي شاركتُه بالنشر منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل والحرب على قطاع غزّة، موسومًا بالعنوان «الصمت الصارخ».

 

الكتابة وتساؤلات الجدوى

السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، وحجم الحرب العدوانيّة على قطاع غزّة، وطبيعتها الشرسة، وهول تبعاتها، وتصعيد سياسات القهر والإخضاع لفلسطينيّي الداخل تحديدًا، وإخراسهم، خلق لديهم شعورًا بالعجز، وكشف عدم صلاحيّة مخزون أدواتهم المعهودة للتعاطي مع هذه الظروف على نحو كافٍ ومُرضٍ، وأثار تساؤلات جمّة أوردنا بعضها أعلاه. وإذ نؤمن بالكتابة بوصفها إحدى الأدوات الأكثر جدّيّة وجذريّة، فإنّ أحد التساؤلات الأكبر تمحور حولها: ما جدوى الكتابة في الحرب هذه وظروفها وما رافقها ويرافقها؟

ثمّة أطنان من الكتابة عن الحروب والعدوانيّة الإجراميّة والشيطنة، والديمقراطيّة، والشوفونيّة، والفاشيّة والاستعمار والقوى الاستعماريّة، والشعوب الأصلانيّة، وقرارات الأمم المتّحدة ووثائقها، ومقاومة الظلم والاستبداد، والنظام العالميّ والعولمة، والنيوليبراليّة والرأسماليّة المتوحّشة، وتجارب الناس في الحروب، وتبعات الحروب عليهم نفسيًّا واجتماعيًّا وجسمانيًّا، والصمود في حال الفلسطينيّين، وثمّة الكثير من الكتابة الأدبيّة عن الحرب وتبعاتها.

فما جدوى كتابة أخرى والحال هذا، رغم الكتابة المتراكمة التليدة والجديدة، ورغم التاريخ البشريّ الطويل، والتاريخ الحديث حصريًّا؟ هل تصلح الكتابة وترقى، والأصحّ تنحدر، إلى حجم هول الظرف الراهن؟ هل تشفي الكتابة الكاتب تحت الظروف الراهنة؟ أيّ وظائف منوطة بالكتابة في الظروف المذكورة، خاصّة حين تأتي بقيمة نوعيّة مضافة؟ وإذا كانت مساءلة جدوى الكتابة إجمالًا في الظروف المذكورة راهنة، فالدقّة تُعْوِزُنا التمييز بين الكتابة الأدبيّة، والكتابة الأكاديميّة، والكتابة الصحافيّة، والكتابة للجمهور الواسع. بين أنواع الكتابة هذه تأثيرات متداخلة عامّة، وعند المطّلع عليها، ومَنْ يكتب غير نوع واحد منها على وجه الخصوص، لكنّ الوسيلة هنا لا تتيح التوسّع في هذا الموضوع أكثر.

 

اعتزال الكتابة

سؤال جدوى الكتابة تحت الظروف الآنفة الذكر يقف وراء اعتزال الكتابة! على المستوى الشخصيّ، فقد اعتزلت المشاركة بعامّة في الوبينارات، والمنصّات الأخرى على قلّتها، نظرًا إلى مساءلة جدواها، بما في ذلك مساءلة جدوى البراديمات والنظريّات والبحث الأكاديميّ والتنظير (أشرت إلى ذلك في تعبيرات ’الوكالة الاجتماعيّة‘، و’الفاعليّة الاجتماعيّة’ و’الذات‘، في نصّي الشعريّ «الصمت الصارخ»). وقد تناولتُ ذلك في أوراق أكاديميّة قدّمتها في مؤتمرات عالميّة، وقطريّة، وفي محاضرات في أطر مختلفة، وهي موضوع للبحث والتطوير في المساحات ذات الصلة.

إذا كانت مساءلة جدوى الكتابة إجمالًا في الظروف المذكورة راهنة، فالدقّة تُعْوِزُنا التمييز بين الكتابة الأدبيّة، والكتابة الأكاديميّة، والكتابة الصحافيّة، والكتابة للجمهور الواسع.

ثمّة فوارق بين الكتابة والنشر الفرديَّين والمؤسّساتيَّين في الظروف الآنفة التوصيف، فالكتابة والنشر الخاصّة بصحيفة، أو موقع إلكترونيّ إخباريّ أو ثقافيّ، أو بمركز أبحاث، هي المسوّغ لوجود الصحيفة، والموقع، ومركز الأبحاث. وكتابة كلٍّ من هذه المؤسّسات للموادّ الّتي تختصّ بها وإصدارها هي مسوّغ وجودها في البداية، ومسوّغ بقائها في النهاية. قد تقفل إحدى هذه المؤسّسات عنوة، وقد يستقيل أحدهم منها، لكنّ المؤسّسة نفسها ’لا تعتزل‘ الكتابة والنشر.

ثمّة فوارق بين اعتزال المشاركة في النشاطات الفكريّة الاجتماعيّة، وبين اعتزال الكتابة الفرديّة الموجّهة إلى الجمهور الواسع، بالأحرى اعتزال نشر ما تكتب. خلافًا لنشاطات وفعاليّات حياتيّة أخرى، لك في النشر شريكات وشركاء هم على الأخصّ القرّاء، الّذين ترتفع حاجتهم عامّة إلى الموادّ الّتي تُنْشَر، بل بعضهم ينتظر ما تكتب، ويفتقد غيابه. وبتزامن، يلازمك التمزّق بين مسؤوليّة الصمود والتمسّك بالأمل في حال أفضل وبثّ هذا الأمل، وبين الاعتزال الواعي عن الكتابة لأجل مسمًّى. وهو ما يحدّ من زمن الاعتزال، ويدفع إلى العودة إلى الكتابة للجمهور الواسع.

 


 

تغريد يحيى- يونس

 

 

أكاديميّة وأستاذة جامعيّة فلسطينيّة. اهتماماتها الأكاديميّة الرئيسيّة علم اجتماع الغربة، والإثنيّة والعلاقات الإثنيّة، والنظريّات النسويّة، والسياسة والجندر، ومناهج البحث النوعيّ، واللغة والهويّة.

 

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *