Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

الرباط والطوفان… ما بين القدس وغزّة

صلاة في المسجد الأقصى | مصطفى الخروف، الأناضول.

 

لطالما شكّل المسجد الأقصى، بوصفه تكثيفًا رمزيًّا هويّاتيًّا، محرّكًا أساسيًّا للردّ على جرائم الاستعمار الصهيونيّ ضدّ الشعب الفلسطينيّ، والشرارة الأولى لعدد من الانتفاضات والهبّات، وبوصلة وجّهت أفعال المقاومة الشعبيّة والعسكريّة، الفرديّة والفصائليّة. وهكذا كانت عمليّة «طوفان الأقصى» معركة قلبت موازين القوى في نقاط الاشتباك في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948 (إسرائيل)، ابتداء من صباح السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، بعد أسبوع تكاثفت فيه اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، تزامنًا مع «عيد  العُرش» اليهوديّ الّذي امتدّ من 29 أيلول (سبتمبر) وحتّى 6 تشرين الأوّل (أكتوبر)، حيث تصاعدت اعتداءات أجهزة الاستعمار على المرابطات والمرابطين.

تقرأ هذه المقالة عمليّة «طوفان الأقصى»، بوصفها معركة حقوق يجب أن يُفَكَّر بمشهديّتها ضمن السياق العامّ للاستعمار الإسرائيليّ للأراضي الفلسطينيّة، وموجات تصعيد العدوان الّتي تشهدها الأراضي المحتلّة عام 1967 منذ بداية العام، وصفقات التطبيع ومخطّطات السلام المتجدّدة، مع تسليط الضوء على سياسة فكّ الرباط في المسجد الأقصى، الّتي تمارسها إسرائيل غايةً في فرض سيادتها على هويّة المسجد وعموم القدس، الّتي شكّلت دافعًا من دوافع المعركة، ليس من حيث زمانيّة التخطيط الّتي حتمًا لم تكن وليدة لحظة أو إعداد أيّام، وإنّما كان في زمانيّة التنفيذ، واسم العمليّة، وامتداد الرباط من القدس إلى غزّة.

 

الرباط المقدسيّ

أيّ محاولة لقراءة تصاعد العدوان الإسرائيليّ في القدس وفهمه، وتكثيف العنف والاعتداءات على المسجد الأقصى والرباط فيه، يجب أن تنظر في كوامن فعل الرباط وحمولته المتعدّدة، ليس دينيًّا فقط، وإنّما أيضًا بوصفه حركة أو حراكًا ثقافيًّا اجتماعيًّا بأبعاد وطنيّة وسياسيّة، مع إدراك ما تكشفه لنا سياسات الاستعمار في التعامل مع المرابطات والمرابطين عن سوسيولوجيا هذا الوجه من المقاومة الشعبيّة، آخذين بعين الاعتبار أنّ الحرب مع الاستعمار لا تقتصر على التحرّر الجغرافيّ الميدانيّ، بل هي معركة وعي ضدّ الرواية الإسرائيليّة والمخيّلة الصهيونيّة، ومعركة تحفظ فعل التذكّر الفلسطينيّ، وتدوّن التاريخ، وتربّي الأمل في الأجيال. هي نضال يقاوم طمس الهويّات واغتيال الذاكرة واغتصاب الحقوق، ويبعث ببيانات شعبيّة وعسكريّة تدحض كلّ خطابات الاستسلام.

الرباط الفلسطينيّ ظاهرة سوسيوسياسيّة؛ وفعل يؤكّد من خلاله المرابطات والمرابطون هويّتهم بصفتهم فلسطينيّين مستعمَرين، في مواجهة الآخر الإسرائيليّ المستعمِرْ، ومقاومته…

يمكن القول إنّ الرباط الفلسطينيّ ظاهرة سوسيوسياسيّة؛ وفعل يؤكّد من خلاله المرابطات والمراابطون هويّتهم بصفتهم فلسطينيّين مستعمَرين، في مواجهة الآخر الإسرائيليّ المستعمِر، ومقاومته[1]، وفيه يتداخل الدينيّ مع السياسيّ والوطنيّ والاجتماعيّ والثقافيّ في عدّة أشكال: أوّلًا؛ يقوم الرباط الّذي يعزّز وجود الفلسطينيّ في المسجد الأقصى على مرتكز أساسه التصدّي لممارسات الاستعمار التهويديّة ومخطّطاته، وغاية التقسيم الزمانيّ والمكانيّ للمسجد الأقصى؛ الرامية إلى فرض السيادة الإسرائيليّة عليه، من خلال مراكمة الاقتحامات والانتهاكات وتكرارها، “الّتي تنطلق من تصميم على السيطرة الكاملة على المسجد الأقصى؛ باعتباره «جبل المعبد» في المخيّلة الصهيونيّة[2].”

وعليه، يؤسّس الرباط لفعل مقاومة جمعيّة تعكس إرادة جمعيّة لخيار شعبيّ، يدلّل على حرص الجماعة الفلسطينيّة على الوحدة الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة والهويّاتيّة، من حيث مشاركة فلسطينيّي أراضي 48، إلى جانب المقدسيّات والمقدسيّين في الرباط، وحضور قطاع غزّة من قبل في معركة «سيف القدس» عام 2021، في سياق «هبّة أيّار»، واليوم في «طوفان الأقصى».

ثانيًا؛ تتّخذ مظاهر الرباط وسماته بُعْدًا اجتماعيًّا، سواء كان رابطًا فرديًّا أو جماعيًّا، وذلك من حيث أشكال فعاليّاته في المسجد، وتنوّع الفاعلين من حيث الطبقة والجندر والسنّ، الّتي لم تقتصر على فعل الصلاة، بل أدخلت المقاومة الشعبيّة إلى حيّز أشكال التفاعل الإنسانيّ في الحياة اليوميّة؛ فصارت ممارسات المعيش اليوميّ بشكلها الهويّاتيّ الفلسطينيّ، من مأكل وتعليم وزيارات وطقوس الاجتماعات والزواج وغيره، رمزًا للتعبير الاحتجاجيّ، ووسيلة للمقاومة، وإثباتًا للهويّة والوجود. إضافة إلى دخول المرأة الفلسطينيّة إلى الحيّز العامّ للمقاومة المقدسيّة؛ فبالرغم من  كونها شريكة في المقاومة البنيويّة واللابنيويّة على اختلاف صفاتها ومتغيّرات التقسيمات الديموغرافيّة، إلّا أنّ حضورها كان ظاهرةً ميّزت فعل الرباط من خلال إبراز مركزيّة دورها على المستوى الشعبيّ الفلسطينيّ.

 

الرباط المقدّس

أضفت المكانة الدينيّة والتاريخيّة للمسجد الأقصى، إضافة لموقعه الحياتيّ في مدينة القدس، طابعًا مقدّسًا على الرباط بوصفه ممارسة اجتماعيّة وفعل مقاومة يؤثّر في الوعي الجمعيّ، ومن خلاله، يحاول الفلسطينيّون الحفاظ على هويّتهم وأحقيّتهم واستحقاقهم للحياة على أرضهم. إضافة إلى كونه فعل تصدٍّ للسياسات الإسرائيليّة الاستعماريّة بوصفها، فلسطينيًّا، عمليّات تدنيسيّة للمقدّس؛ وهنا يتجلّى الطرح الدوركايميّ الّذي “يعتبر أنّ قدسيّة المقدّس تأتي من تعارضها بشكل قاطع مع مجال المدنّس؛ فوظيفة الأوّل هي بالضرورة نفي للثاني حتّى يظلّ قائمًا”[3].

إنّ اعتبار الرباط مقدّسًا (…) يُكسب فعل الرباط قدرة على توحيد الجماعة الفلسطينيّة، رغم التشظية الاستعماريّة للحيّز المكانيّ…

وبالاعتماد على مفهوم مارسيل موس حول المقدّس، يمكننا القول، عن الحالة الفلسطينيّة، إنّ في إنتاج الجماعة الفلسطينيّة لممارسات وفعاليّات وطقوس متمثّلة في كلّ أشكال الرباط وأنماطه، إبرازًا لعلاقة الفلسطينيّ بالمقدّس، وتحديدًا لشكل علاقته بالاستعمار الإسرائيليّ. كما “تؤدّي كلّها دور توحيد الجماعة، وترسيخ تماسكها الاجتماعيّ، وتحديد معالم هذا المقدّس”[4].

بالتالي؛ إنّ اعتبار الرباط مقدّسًا، وفقًا لتعريف موس للأخير على أنّه “مجموعة من الظواهر الاجتماعيّة والثقافيّة، وكذلك مجموعة من الممارسات والتعبيرات الاجتماعيّة والتمثّلات الجمعيّة لأعضاء جماعة معيّنة”[5]، يُكْسِب فعل الرباط قدرة على توحيد الجماعة الفلسطينيّة، رغم التشظية الاستعماريّة للحيّز المكانيّ؛ باعتباره ممارسة دينيّة جوهرها اجتماعيّ وسياسيّ، أو ممارسة اجتماعيّة سياسيّة ذات طابع دينيّ. وهذا ما يفسّر تجريم الاستعمار الإسرائيليّ للرباط، وحظره لمظاهر الرباط البنيويّ التنظيميّ ومؤسّساته، وما تقوم به سلطات الاستعمار من اعتداء على المرابطات من تهديد وضرب، وفرض غرامات ماليّة، واعتقالات، وإبعاد قسريّ، وقطع مخصّصات التأمين الصحّيّ، لكلّ مَنْ يرابط على أبواب الأقصى وفي باحاته.

 

«طوفان الأقصى»

في توقيت ما زالت فيه الاحتمالات الميدانيّة مفتوحة، والخسائر العسكريّة والبشريّة لمّا تنحصر بعد، والتغيير المادّيّ لمّا يستكمل ملامحه، وانطلاقًا من أنّ الحرب لا تزال مستمرّة، من المهمّ ألّا نغفل عن التساؤل عن خسائر الاستعمار، ومكاسب الفلسطينيّين المعنويّة؛ وهو ما بدأ يبلور جدوى هذه العمليّة منذ بدء العمليّة.

هي معركة صنعت ممكنًا عبر المستحيل، فحرّرت الأنفس المستعمَرة بما أحدثت من تحوّلات في التمثّلات الشعبيّة، وخلقت حدًّا للوصاية، وسابقت الزمن، واستدعت مخيّلة التحرير…

في صباحٍ تلا آخر أيّام «عيد العُرش» اليهوديّ، الّذي كثّف فيه المستوطنون الاعتداء على المرابطات والمرابطين، في ظلّ اقتحامهم للمسجد الأقصى لممارسة طقوسهم التوراتيّة، أشرقت شمس السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) على بدء عمليّة «طوفان الأقصى» الّتي أدّت إلى إخلاء آلاف الإسرائيليّين من مستوطنات ما يُسَمّى إسرائيليًّا ’غلاف غزّة‘؛ على وقع إطلاق المقاومة الفلسطينيّة أكثر من 5000 صاروخ وقذيفة من قطاع غزّة المحاصر، نحو الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، وتسلّل ما يزيد عن ألف مقاتل من «حركة المقاومة الإسلاميّة – حماس» ومختلف فصائل «غرفة العمليّات المشتركة» في القطاع.

هي معركة تصنع ممكنًا عبر المستحيل، تحرّر الأنفس المستعمَرة بما تحدثه من تحوّلات في التمثّلات الشعبيّة، وتخلق حدًّا للوصاية، وتسابق الزمن، وتستدعي مخيّلة التحرير، ولهذا تقرّر إسرائيل وحلفاءها أن تردّ عليها بحرب إبداة وتطهير عرقيّ.

 


إحالات

[1] أحمد عزّ الدين أسعد، “السوسيولوجيّ والسياسيّ في حراك/ لا حركة المرابطين في المسجد الأقصى (“(2019-2000، في: مجموعة مؤلّفين، تحرير: آيات حمدان، القدس: التطهير العرقيّ وأساليب المقاومة، (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2023)، ص 391.

[2] شريف أبو شمّالة، “الدور الشعبيّ في الدفاع عن المسجد الأقصى: الرباط نموذجًا”، مجلّة دراسات بيت المقدس، (2021)، ص 256.

[3] عبد الهادي الحلحولي، “المقدّس: بنيته ووظائفه: قراءة في كتاب الوظائف الاجتماعيّة للمقدّس لمارسيل موس”، في: يونس الوكيلي (تنسيق وتقديم)، الأنثروبولوجيا الفرنسيّة: دراسات ومراجعات في تراث إميل دوركايم ومارسيل موس (الرباط: مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، 2018)، ص 49.

[4] المرجع السابق، ص 47-48.

[5] المرجع السابق، ص 50.

 


 

إيمان بديوي

 

 

 

كاتبة أردنيّة، دَرَسَتْ الماجستير في «علم الاجتماع» من «معهد الدوحة للدراسات العليا»، مهتمّة بالقراءة السوسيولوجيّة للقضايا المجتمعيّة الراهنة.

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *