Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

الموت في غزّة

شابّ غزّيّ يبكي صديقًا له استشهد بنيران إسرائيليّة، خان يونس | سائد خطيب

 

ماذا لو كنتُ هناك؟ أستمع إلى صوت القذائف تخترق جوّ مدينتي، تُفجّر بيتًا في حيّي السكنيّ، ويكون دمي قد تجمّد في عروقي، واختفى لون وجهي قبل أن أدرك أنّني ما زلت حيّة، وأنّ البيت الّذي تفجّر ليس بيتي، والعائلة الّتي قُتِلَت في هٰذه اللحظة ليست عائلتي، بل ربّما تكون عائلة جاري الّذي كان لا يزال يحتفل بتخرّج ابنته، أو صديقتي الّتي أنجبت طفلًا ملاكًا قبل أيّام، أو بائع الخضار الّذي اعتدت أن أمرّ بدكّانه في كلّ صباح لنتبادل أخبار البلد، أو قريبتي الّتي تزوّجت من حبيب قلبها بعد انتظار طويل حتّى انتهائه من بناء بيت آمن لهما؟ إذن، لم أُقْتَل في تلك اللحظة، لكن قُتِل أحد هؤلاء، أو كلّ هؤلاء، ألا أكون قد متّ في كلّ الأحوال؟

ماذا يتبقّى منّا حين تُقْتَل قصصنا، وتَعلق تحت الأنقاض في ذاكرة الراحلين عنّا؛ المسلوبين قسرًا منّا؟ ماذا يتبقّى من الحياة، ومن حياتي أنا، بعد أن تتجمّع رائحة الموت في غرفتي، وتعبق بملابسي وأغطية سريري، ودفاتري، وبقِطع الكعك الّذي صنعته أمّي لي قبل الحرب بيوم واحد، ولم أَعُد أشتهي أكله تحت وابل القصف المستمرّ ونوبات الهلع المتكرّرة، وفي ظلّ وحش الموت وكابوس الإبادة؟ ماذا فعلنا حتّى لا نستحقّ العيش؟ أجابهنا آلامنا كلّ هذه السنوات كي ننتهي هكذا، عراة من كلّ مستقبل تطلّعنا إليه، ومن كلّ أمل تمسّكنا به، ومن كلّ ذكرى جميلة أفهمَتنا أنّنا بالفعل نستحقّ الحياة، وأنّ الحياة دون شكّ تستحقّنا؟

ماذا لو كنت هناك؟ أسمع نحيب الأمّهات على أبنائهنّ، وندب الأبناء على آبائهم، وأرى ارتجاف الأطفال المغطَّين بالرماد والدماء، وأشهد انكسار الرجال…

ماذا لو كنت هناك؟ أسمع نحيب الأمّهات على أبنائهنّ، وندب الأبناء على آبائهم، وأرى ارتجاف الأطفال المغطَّين بالرماد والدماء، وأشهد انكسار الرجال، رجال ينوحون على زوجاتهم وأولادهم وأمّهاتهم وإخوتهم، يتنقّلون من ركام إلى آخر بحثًا عن صوت أو أنين أو لعبة أو كتاب أو أيّ شيء كان لأحبّتهم ولم يغرق مثلهم تحت الركام. ماذا لو كنت هناك؟ تحفر القسوة في ذاكرتي صورة شابّ يحتضن بين ذراعيه جثّة، أو جزءًا منها.

ماذا لو كنت هناك؟ لا أنام سوى ساعة أو ساعتين، يلاحقني خلالها شبح كالكفن، أو ربّما هو الكفن. ماذا لو لم أنم بتاتًا، وبقيت 72 ساعة مستيقظة، أحاول أن أميّز صوت البكاء يعود لمَنْ، وصوت الصراخ لمَنْ، وصوت الأنين لمَنْ، وصوت الاستنجاد لمَنْ، وأتابع الأخبار، حتّى الكاذبة منها، وهي تُباع على حساب إنسانيّتنا ومعاناتنا، وتتاجر بآلامنا، وتبيح بعناوينها المموِّهة إبادتنا؟ أشعر بأنّ العالم كلّه كمدينتي، لم يَعُدْ يصلح للعيش. لو كنت ابنة شعب آخر، أقلّ عذابًا، وأكثر أمانًا، أقلّ سجنًا، وأكثر فرحًا، أكنت سأحقد على العالم إلى هذا الحدّ؟

ماذا لو كنت هناك؟ يأمروننا بالنزوح من مسقط قصصنا وذكرياتنا، فنحمل ما وسعت أيدينا واصطبرت أكتافنا، ونمشي جماعات حفاة إلى مصير مجهول. أحقًّا لم نكن نعرف مصائرنا في هذا المكان؟ أليست حياة الأسرى متوقّعة إلى حدّ ما؟ ألسنا أذكياء كفاية لنعرف مصير المظلوم في سجون الظالم؟ خلف الزنازين الضيّقة أو داخل حدود قطاع كامل، كيف لحياة المظلوم أن تثمر إلّا مزيدًا من المعاناة، وقد تجاهل الحكّام وجوده، وكُمِّمَت أفواه كلّ مَنْ يُذْكَر اسمه ذِكرًا؟

لا دواء، لا ماء، لا كهرباء، لا اتّصالات، لا طعام، لا أمان، لا هدوء، لا اطمئنان، لا ملجأ. ماذا لو كنت هناك؟ أفقد قدمًا أو يدًا أو عينًا، ولا أجد سيّارة إسعاف تنقلني إلى المستشفى، ولا أجد مستشفًى، ولا أجد فردًا من عائلتي حيًّا؟ كم أرغب في أن يُمْطِر الله على «البيت الأبيض» جثثًا مشوّهة مدماة متعفّنة، تتكدّس في الحدائق والشوارع حوله! أو أن يأتي بايدن بنفسه إلى غزّة فيعيش يومًا واحدًا تحت القصف! هل سيُحدث ذلك فرقًا؟ ربّما سيموت فورًا من شدّة الخوف، وحينذاك بلا شكّ سينسى العالم موتنا ويهتمّ بموته، ونُتَّهَم نحن بقتله، ويصدّق ذلك المجرمون المتظاهرون بالإنسانيّة. كيف سأشعر حين أُوقن أنّ موتي قريب، وأنّني مذ وُلِدْت، وُلِدْت رقمًا لا يُعَدّ ولا يُحْصى إلّا في الحرب؟

لكنّني لست هناك. أنا هنا داخل سجن أنيق. عليّ أن أشاهد الأحداث بصمت. مثلي كمثل طاولة يوضع عليها كوب الشاي الساخن صباحًا دون أن تشتكي، ككلب لا يعجبه أن يُرْبَط بحبل لكنّه ينصاع مجبَرًا. كتمثال قديم متردّم لا يحفظه أحد، كأيّ شيء يُحَرَّك، يُدْفَع، يُسْحَب، يُرْبَط، يُسْتَعاد، يُوضَع، يُؤْخَذ، يُرْمى، ويُنْسى.

ماذا يعني أن أكون هنا في الشمال الداخليّ؟ آكل وأشرب وأدخل الحمّام، وأذهب إلى العمل يوميًّا، وأحاول إتمام مهمّاتي كأنّ شيئًا لم يحدث، لا يحدث، ولن يحدث، كأنّ الحرب لا تدور في غير رأسي…

جميعنا في سجن كبير واحد، مع اختلاف الظروف والأشكال. شكل تعذيبنا، شكل زنازيننا، شكل سجّاننا عن بُعْد وقُرْب، شكل عيشنا، وشكل موتنا. ماذا يعني أن أكون هنا في الشمال الداخليّ؟ آكل وأشرب وأدخل الحمّام، وأذهب إلى العمل يوميًّا، وأحاول إتمام مهمّاتي كأنّ شيئًا لم يحدث، لا يحدث، ولن يحدث، كأنّ الحرب لا تدور في غير رأسي، كأنّ عقلي ساحة حرب لا يراها أحد، كأنّني موهومة، كأنّ غزّة في قارّة أخرى لا أعرف عن أناسها شيئًا، كأنّني آلة في هيئة إنسان، لا تشعر ولا يحقّ لها أن تشعر.

لا تُسقطوا عنّي حقّ البكاء، على الأقلّ. لم تعُد ثمّة حاجة إلى التظاهر بالقوّة في كلّ مرّة أقرأ فيها عن مجزرة أخرى، وفي كلّ مرّة يقول فيها صديقي الغزّيّ شيئًا عن قسوة الظروف في غزّة، أو حين يختفي، وفي كلّ مرّة أرى صور شهداء أو أشلاء أو جرحى، وفي كلّ مرّة تُزَوَّر الأخبار، وفي كلّ مرّة ينبّهني أحد ما إلى ازدياد الاعتقالات بتهمة التضامن والتحريض، وفي كلّ مرّة لا أمتنع عن المشاركة رغم قلقي وخوفي. هل أخاف من أن يتغيّر مسار حياتي؟ أن أُطْرَد من عملي؟ أن يُكْسَر قلب والديّ؟ أن يُهْدَم كلّ ما بنيته؟ وما قيمة كلّ ما بنيته أمام كلّ هذا الدمار؟ ألسنا نعيش هنا في جحيم آخر؟ يُطْهى خوفنا على نار هادئة، نموت ببطء أكثر، نفقد شعورنا بالأمان كلّ يوم أكثر، تُشَوَّه هويّتنا، تنكمش آمالنا، وتستمرّ بالانكماش حتّى توشك أن تصير صفرًا. هنا، لم يتبقَّ لنا سوى قنوات الأخبار ولائحة أسماء الشهداء للبحث عن أصدقائنا. وهناك، لم يتبقَّ لهم سوى الركام والخيام للبحث عن أحبّتهم، أحياء أو أمواتًا. وسط هذه الكارثة لا تنزعوا منّا، على الأقلّ، حقّ البكاء.

 


 

يارا أبو داوود

 

 

 

معلّمة للّغة الإنجليزيّة وطالبة ماجستير في اللغة العربيّة.

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *