Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

ماذا يعني تدمير إسرائيل للمسجد العمري الكبير؟

كانت المباني المعمارية القديمة من أهم الضحايا التي تعرضت للتدمير، وخصوصًا المسجد العمري الكبير الذي يعود تاريخه لعشرات القرون الغابرة

ماذا يعني تدمير إسرائيل للمسجد العمري الكبير؟

المسجد العمري بعد قصفه بالطائرات الإسرائيلية (تويتر)

نظرت إلى صور قطاع غزّة الآن فسترى، بدلًا من المدن التي كان يعيش فيها الآلاف من الناس، الأنقاض. ناثرت بقايا المنازل والمباني السكنية، وتشوهت لدرجة يصعب التعرف عليها. تحوَّلت جميع المحلات التجارية والمستشفيات والمدارس والجامعات والمباني الدينية، سواء كانت قديمة أو جديدة (لا فرق الآن)، إلى أكوام من الحجارة والحديد التي لا يمكن إنقاذ أي شيء منها، بل تعرَّض بعضها للقصف لدرجة يصعب التعرف عليها، ولا يمكن رؤيتها الآن إلا في ذكريات أولئك الذين عرفوها. ثمَّة كلمة تُطلق على تدمير المباني والمدن كجزء من حملة التطهير العرقي: «إبادة المناطق الحضرية» أو Urbicide، وهو تكتيك يستخدم للتأكد من أنه لم يتبق شيء للعودة إليه، ولا شيء يمكن الاعتزاز به أو التمسك به. هدفها هو الاستعمار الكامل لتضاريس منطقة ما ومحو كل ما كان عليه قبلًا.

منذ أن بدأت إسرائيل هجومها على قِطاع غزّة في أعقاب هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كانت المباني المعمارية القديمة من أهم الضحايا التي تعرضت للتدمير، وخصوصًا المسجد العمري الكبير الذي يعود تاريخه لعشرات القرون الغابرة، إذ شُيّد في البداية بوصفه كنيسة بيزنطية في القرن الخامس، ثم أصبح يُعرف باسم المسجد العمري الكبير في القرن السابع، وهو أول مسجد أُقيم في غزة خلال فترة انتشار الإسلام. وقد أتاح موقع غزة الساحلي الإستراتيجي أن تشهد العديد من التغييرات: فقد حول الصليبيون في القرن الحادي عشر المسجد مرة أخرى إلى كنيسة، ثم أُعيدَ تحويله إلى مسجد مرة أخرى بعد قرن من الزمان. نجت المنطقة من الكثير من الصراعات، وكان لها دورًا في العديد من الإمبراطوريات المختلفة.

المسجد العمري قبل تدميره من قبل الاحتلال الإسرائيلي

وأخبرني ناصر رباط، مدير برنامج الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن «غزة كانت مدينة كبيرة في عهد البيزنطيين، وقبلهم، الرومان، وكانت مركزًا [سياسيًا] … للإمبراطورية المملوكية في القرنين الثالث عشر والخامس عشر. وهذا هو الوقت الذي وصلت فيه على الأرجح إلى أعلى مستوى من السلطة الإدارية. كانت غزة المكان الذي يتجمع فيه الجيش [المملوكي] في طريقه إلى حملاته في شمال سوريا، أو في منطقة الفرات، أو في الأناضول ضد أعدائه».

وقد عكس المسجد العمري الكبير هذا التاريخ، إذ تعرض للضرر والهدم وأعيد بناؤه عدة مرات على مر القرون: هاجمه المغول في القرن الثالث عشر، ودمره زلزال بعد بضعة عقود، ورُمّم ووسّع في العهد العثماني، وتدمر جزئيًا بالقنابل البريطانية في الحرب العالمية الأولى، وأعيد ترميمه مرة أخرى. أما الآن، فقد طُمس تمامًا وبشكل مقصود، ولم يتبق منه سوى بعض الجدران ومئذنة واحدة. ولا شك أن هذا يشكل عنصرًا متعمدًا في الحملة الإسرائيلية لمحو كل آثار الحياة الفلسطينية.

وبعد ورود أنباء عن تدميره، انتشرت تغريدات عديدة على نطاق واسع تقارن بين الغضب واسع النطاق بشأن حريق عام 2019 الذي أودى جزء من كاتدرائية نوتردام في باريس، والصمت النسبي بشأن فقدان المسجد التاريخي. ولا شك أن جزء من هذا النفاق يعود لانتشار رُهاب الإسلام والجهل بالثقافة الإسلامية في الغرب على نطاق أوسع. ولكن ثمة نقطة عميقة يجب توضيحها بشأن الخسارة المعمارية من حيث صلتها بالحرب. ففي نهاية المطاف، تُعَد نوتردام حالة فريدة من نوعها: فهي مشهورة على نطاق واسع في الثقافة الشعبية الجماهيرية (عدد قليل للغاية من المباني صنعت ديزني فيلمًا عنها)، وكان الحريق مجرد حادث بسيط، ولم يكن عملًا متعمدًا من أعمال الهدم.

وفي الوقت نفسه، فإننا نعيش ما لا يقل عن قرن من الخطابة المرتبطة بحلقات الدمار الشامل المستمرة. إذا كان حريق نوتردام نتيجة لحادث، فإن الحرب، رغم أنها دائمًا ما تدمر البيئة المبنية، يُنظر إليها بشكل متزايد على أنها سبب مشروع للتدمير المعماري. يتم تبرير الهجمات الصارخة على مواقع التراث الثقافي باستخدام مصطلحات الحرب الباردة مثل «الضربة الاستباقية» أو «لمصلحة الأمن القومي». إن التقليل من قيمة الثقافة الملموسة يرتكز بطبيعة الحال على نفس معاملة الأشخاص الذين بنوها: باعتبارهم خسائر مأساوية ولكنها ضرورية. يُجرد السكان من إنسانيتهم، ويتحولون إلى إحصائيات. وصل عدد قتلى الحرب الإسرائيلية على غزى حتى وقت كتابة هذه السطور 23 ألف قتيل[1]. ويبلغ عُمر المسجد العُمري حوالي 1500 سنة. تعطينا هذه الأرقام نبذة عن رعب الدّمار ومستواه، وتكبر الأرقام أكبر وأكبر، وتصير عصية على الفهم والاستيعاب، وتتحول إلى بيانات مجردة.

نتشبث في أوقات الحرب بالفن والمعمار وغيرها من أشكال الثقافة لأسباب عديدة: لإظهار أهمية الأشياء والأشخاص، وأن الثقافة كان من المفترض أن تستمر، وأن تدمير شيء لا يقدر بثمن هو جريمة مخزية. لقد صدمنا بخسائر مثل المسجد العمري الكبير، ليس فقط لأنها فظيعة ومحزنة، ولكن أيضًا لأننا اعتقدنا أن من في السلطة ربما يكنون احترامًا للفن والتاريخ الذي تعتبره مؤسساتهم مشروعًا أكثر من احترامهم للحياة البشرية. ولكن، بالطبع، هذا ليس صحيحا: إذا كانت الحياة البشرية لا تساوي شيئا، فإن المعمار لا يساوي شيئًا أيضًا، وهو الذي يُعد إنجازًا تراكميًا وشهادة لحيوات بشرية لا حصر لها. في حملة إبادة المدن، لا شيء يهم. الهدف النهائي هو التدمير الكامل.

ليست كل المباني تاريخية أو غنية في إرثها، بيد أن كل المباني لا يمكن استبدالها. إن خسارة أي مبنى كان يؤوي الناس أو يوفر لهم القوت الروحي، وكان بمثابة خلفية للحياة اليومية والاستقرار، أمر فظيع. ولا يختلف تدمير المسجد العمري الكبير كثيرًا عن تدمير مجمع سكني: فالجريمة نفسها ترتكب ضد الأشخاص نفسهم وللسبب نفسه. ويجب النظر إلى تدمير كليهما في سياق قتل المدن والتطهير العرقي، ولا يجب فصله إلى جرائم ضد التراث الثقافي مقابل أضرار جانبية حتمية للمنطقة في أثناء الصراع. إن تدمير كليهما هو خيار اتخذته إسرائيل بمساعدة وتحريض من الولايات المتحدة. إن ذبح الفلسطينيين ومصادرة مواقعهم الثقافية جزء من هدف التدمير نفسه، الذي يجب علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لإيقافه.


[1] نُشرت هذه المقالة باللغة الإنجليزية في 24 يناير/كانون الثاني 2024، وقد وصل عدد الشهداء في قطاع غزّة حتى تاريخ 12 فبراير 2024 إلى حوالي 28,340 شهيدًا، حسب إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية في غزّة.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *