Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

عن «غباء» الذكاء الاصطناعي

ينتقد المقال الضجة حول الذكاء الاصطناعي ويجادل بأن التكنولوجيا ليست حلاً سحريًا لمشاكل البشرية. يشير المؤلف هنري كيسنجر إلى أن الذكاء الاصطناعي مدفوع بمصالح مبدعيه وبالتالي فهو عرضة للتحيز والأخطاء

يعتبر التعامل مع برنامج الذكاء الاصطناعي الجديد تشات جي بي تي مُمتعًا ورائجًا بين الناس في هذه الفترة، وهو غيضٌ من فيضِ التقنيات الجديدة التي تستعمل النماذج اللغوية لخوض الحوارات، وتساهم في إنشاء نقاشات متخيلة لجو بايدن ودونالد ترامب وهما يتقاتلان حول ألعاب الفيديو أو لخلق «لوحات» لمشاهد من فيلم ستارك تريك كما لو رسمها ڤان غوخ، ونرى من هذه الاستخدامات أنها مُسليّة، وأُعجبتُ إعجابًا شديدًا به عندما استخدمه أحدهم لكتابة قصائد عن الرياضيين المحترفين بأسلوب الرومانسيين العظماء في القرن التاسع عشر. («مثل العفريت في الملعب/أنت يا جيه آر سميث، بحركاتك الذكية والجريئة»، كانت هذه فاتحة إحدى القصائد، والتي من المفترض انها كُتبت بأسلوب قصيدة «أغنية العندليب»، فهل تشبه هذه الكلمات أشعار كيتس؟ ليس تمامًا. ولكن جيه آر سميث يشبه العفريت على أرض الملعب. سأحسبها نقطة للتطبيق.

توجد الكثير من الطرق لإضاعة الوقت على الإنترنت، وحتى الآن فإن تشات جي بي تي والتطبيقات المشابهة تؤدي هذا الدور حاليًا، ولو استبدل تشات جي بي تي تطبيق دال-إي DALL-E وبرنامج الرسم الغريب الآخر الذي صنع صورًا شخصية بدت مثيرة للناس (ولكنه أيضًا سرق وجوههم) فسيكون الروبوت الأكثر استخدامًا وقيمة في السوق. حتى لو كان العمل الذي ينتجه غالبًا رديئًا وعاديًا من ناحية الأسلوب، فهو سريع جدًا. ضع في اعتبارك حقيقة أن هذه المقالة استغرقت مني يومًا تقريبًا في البحث والكتابة، ولكن عندما سألت تشات جي بي تي عن تأثيره على البشرية وكيف سيغير فيها، أجابني خلال حوالي 15 ثانية. (أخبرني أنه سيزيد من كفاءة المهام من قبيل خدمة العملاء وإدخال البيانات، واختتم بالقول: «سيعتمد تأثيري عمومًا على الإنسانية، وعلى سُبل اختيار الناس لاستخدامي ولتوظيف التكنولوجيا التي تدعم وجودي. أنا هنا للمساعدة وتقديم المعلومات، ولكن الأمر متروك في النهاية للبشر لتقرير سُبل استخدامهم لتلك المعلومات لتشكيل العالم». شُكرًا تشات جي بي تي!).

لكن كما يقولون، ليس كل ما يُراد مُمكن، ولا يكفي أن يكون تشات جي بي تي مُسليًا. ولا يكفي أن يكون بديعًا من نواحٍ متعددة، بل يجب أن يكون تشات جي بي تي بالنسبة للكثيرين أكثر من ذلك بكثير. وبالنسبة للبعض، مثل مجرم الحرب هنري كيسنجر، والرئيس التنفيذي السابق لشركة غوغل، إريك شميدت، والأكاديمي دانيال هاتنلوشير والذين كتبوا مقالة في صحيفة وول ستريت جورنال عن الذكاء الاصطناعي تحت عنوان «تشات جي بي تي يُبشِّرُ بثورة فكرية»، وهو ينشر فرضية أنه سيكون للذكاء الاصطناعي أهمية بوصفه تكنولوجيا تحويلية، تمامًا كما كان أثر مطبعة غوتنبرغ.

كتب كيسنجر وأصدقاؤه: «توجد تكنولوجيا جديدة ومن المتوقع أن تغير العملية المعرفية للإنسان التي لم تتزعزع منذ اختراع الطباعة، التكنولوجيا التي طبعت إنجيل غوتنبرغ عام 1455 جعلت الفكر الإنساني المجرد قابلاً للتواصل العمومي والسريع، ولكن التكنولوجيا الجديدة اليوم تعكس هذه العملية، ففي حين أدّت المطبعة إلى غزارة الفكر الإنساني الحديث، فإن التكنولوجيا الجديدة تحقق القدرة على فلترة وتفصيل هذه المعرفة». يجادل كيسنجر وأصدقاؤه بأنه سيكون لقدرة الذكاء الاصطناعي على استخلاص كميات هائلة من المعرفة البشرية في لحظات تأثيرات ملحوظة على البشرية والوعي والحياة على الأرض بطرق جيدة في الغالب، ولكن ربما تكون سيئة أيضًا. وكتّاب المقالة أعلاه ليسوا وحدهم في هذه الاعتقاد، حيث توقع المعلقون خلال الأشهر القليلة الماضية أن الذكاء الاصطناعي سيهز أركان مجموعة من الصناعات والقطاعات من الصحافة والتعليم إلى الطب والفنون (وربما يدمر الإنسانية أيضًا).

ثمة رهبة وجاذبية، وخوف في الوقت ذاته، في فكرة أننا نشهد ثورةً تكنولوجية عملاقة أخرى، بعد عقود قليلة فقط على ظهور الإنترنت. صاروا يقدّمون الذكاء الاصطناعي في العديد من الحالات على أنه خليفة الإنترنت، وأنه التطور التالي الذي كنا ننتظره جميعًا. تحوّلان كبيران خلال ما يقرب من ثلاثة عقود. أمر لا يصدّق. ظهرت في الأول ظهور شبكة الويب العالمية، والآن نشهد انتشار روبوتات المحادثة وبرامج الذكاء الاصطناعي، وهذه هي الفكرة التي علق الكثيرون آمالهم وحماسهم عليها.

مشكلة واحدة: لا يوجد دليل حقيقي، لجميع المقاصد والأغراض، يؤكد أننا على شفا تحول عميق للغاية في عالم التكنولوجيا. تعتمد الكثير من الكتابات حول الذكاء الاصطناعي على التوجه إلى أنه سيحقق خطوات وقفزات هائلة في المستقبل. ولإحقاق الحق: لقد تحسن الذكاء الاصطناعي كثيرًا في السنوات الأخيرة. يعد برنامج تشات جي بي تي الذي أتحدث معه أحيانًا أكثر تقدمًا بشكل ملحوظ من برنامج SmarterChild الذي كان على برنامج المراسلة الفورية AOL الذي كنت أستخدمه بكثافة عندما كنت طفلاً، لكن الفكرة في أن هذا البرنامج، حتى لو أخذ قفزة كبيرة أخرى إلى الأمام، يمثل لحظة تحول في الحضارة، أو حتى في التكنولوجيا، ما تزال بلا أساس، وتستند كليًا إلى الافتراضات والوعودات.

وكما كتب كيسنجر وأصدقاؤه في وول ستريت جورنال، يمكن للذكاء الاصطناعي «تخزين وفلترة كمية هائلة من المعلومات الموجودة، وفي حالة تشات جي بي تي، يمكنه استخلاص الكثير من المواد النصية على الإنترنت وعدد كبير من الكتب ومليارات المُدخلات؛ ويتجاوز الاحتفاظ بهذا الحجم من المعلومات والقدرة على فلترتها القدرات البشرية». هذا صحيح! أود بالتأكيد أن أكون قادرًا على الاحتفاظ بكل جزء من المعلومات الموجودة على الإنترنت في ذهني، ولكن من المؤكد أن هذا سيقودني إلى الجنون في غضون ثوانٍ. (لأن عقلي مليء بالفعل بأمور مثل «إحصائيات أهداف ليفربول من 2011 حتى الآن» و«كلمات أغاني لانا دِل راي أيضًا من 2011 إلى الوقت الحاضر»).

لكن بحث غوغل يقوم بذلك أيضًا. لا يمكنه التوليف بالطريقة نفسها بالضبط، لكنها يفعل أمرًا مشابهًا، شيء مألوف ومفيد. تسحب خوارزمية غوغل، مثل تشات جي بي تي، البيانات من عدد لا حصر له من المصادر المحتملة وتوجهك نحو ما تعتقد أنه الأنسب، بناءً على مصطلحات البحث. أصبح بحث غوغل أيضًا أفضل، وبسرعة كبيرة، بطرق مشابهة لتشات جي بي تي، مما دفع المنافسين مثل بينغ (الذي يتكامل حاليًا مع تشات جي بي تي) إلى قلة استعماله لدى مستخدمي الإنترنت. لقد توقف أيضًا عن التحسن كثيرًا منذ ذلك الحين، ولم يتغير بشكل ملحوظ في السنوات العديدة الماضية. ما يفعله تشات جي بي تي لا يختلف بشكل عما كنا نفعله مع محركات البحث منذ عقود.

كُتب الكثير حول قدرة تشات جي بي تي على اجتياز الاختبارات وكتابة الأوراق البحثية للجامعات والمدارس، واسمحوا لي مرة أخرى ان أقول إن البرنامج قادر على إنتاج ما يمكن أن يسمى نُسخ نصية مُتماسكة من نُسخ أخرى. ولكن، في ظل خطر الانجراف إلى موضوع حديث آخر (اندحار العلوم الإنسانية)، لا يوجد ما يشير إلى أنه يمكن أن يقلد، ناهيك عن استبدال، التفكير النقدي.

إذا كنت تريد مقالة من خمس فقرات عن الخفافيش: ما هي وأين تعيش؟ وماذا تأكل، يمكن لتشات جي بي تي أن يكتب هذه المقالة عنك، لكنه لا يُفكّر. إذا أردت أن تشرح، على سبيل المثال، الضجة المُعقدة حول فيلم «كل شيء في كل مكان في وقتٍ واحد»، فأنت في ورطة. في أحسن الأحوال سوف يستخلص التطبيق نقدًا من مجموعة الكتابات النقدية الموجودة لبناء نصٍ يُشبهها. (وقد فعل ذلك عندما سُأل عن رد الفعل العنيف على الفيلم، مشيرًا إلى «السياسة» و«التمثيل» و«التعقيد» في الفيلم، والتي تعد إجابة جيدة جدًا وغير مرضية). هذا هو ما لا يُقال وسط هذه المعمعة عن مستقبل الذكاء الاصطناعي: حتى عندما يمكن أن يولد شيئًا يحاكي التفكير النقدي، فإنه في الحقيقة يصنع نصًا جديدًا مأخوذًا من مصادر بشرية. ما تزال برامج الذكاء الاصطناعي، مثلها مثل محركات البحث، تعتمد علينا: البشر الذين يبرمجونها، والمبدعون الفعليون للمحتوى الذي ينتجونه باستمرار.

توجد أسئلة أخلاقية وفلسفية مهمة تحتاج إلى إجابة بينما نستعد لإبراز هذه التكنولوجيا بشكل أكبر. لدى تشات جي بي تي القدرة على نشر معلومات مضللة. وبطبيعة الحال، فالأمر نفسه ينطبق على كل الأوساط الإعلامية الأخرى التي نتعامل معها. لكن الاختلاف هو أن هناك جوًا من الموضوعية مع تشات جي بي تي، ويأتي هذا جزئيًا من صوت الكتابة المحايد. بطبيعة الحال، ومثل الكثير من القلق حول المعلومات الخاطئة، حتى هذا القلق مبالغ فيه، ويفترض وجود مستوى من السلبية بين المستهلكين، أي أنهم يصدقون حرفيُا أي شيء يواجهونه، وأن كثيرًا من الأمور السيئة التي وقعت كانت نتيجة لخداع الناس فقط. يا لها من فكرة والديّة مُطمئنة، إلا أنه لا يوجد أي دليل يدعمها ويؤكدها.

أنهى كيسنجر وشميدت مقالتهم بسلسلة من الأسئلة: «هل يمكننا أن نتعلم، بالسرعة الكافية، أن نتحدى بدلاً من أن نطيع؟ أم أننا في النهاية ملزمون بالخضوع؟ هل ما نعتبره أخطاء جزء من التصميم المتعمد؟ ماذا لو ظهر عنصر خبث في الذكاء الاصطناعي؟» وهذه أسئلة مُسلية فعلًا، إلا أنها أسئلة غبية للغاية وقادمة مباشرة من عالم الخيال العلمي. كانت هناك أمثلة على ما يمكن أن نطلق عليه «الخُبث»، بسبب عدم وجود مصطلح أفضل: لقد أخاف روبوت الدردشة مراسل نيويورك تايمز التكنولوجي كيڤن روز من خلال التصرف بشكل أساسي مثل HAL 9000، لكن حوارهما كان سخيفًا وليس مخيفًا، حيث لعب روبوت المحادثة، بعد أن دفعه روز في هذا الاتجاه، على وتر بعض المخاوف الشائعة بشأن التكنولوجيا، ولكن وحتى لو بدأت روبوتات المحادثة فجأة في الانزلاق إلى وضع خطير، يبقى سؤال: ما الذي يمكنها أن تفعله بنا؟ (هذا السؤال له إجابة سهلة: لا شيء. مرة أخرى، فالحياة ليست فيلم 2001: A Space Odyssey.)

بدأ كيسنجر ورفاقه في هذه المرحلة من بحثهم عن رؤية الذكاء الاصطناعي بالتحول إلى نشر الهراء، حيث أشاروا إلى أن الذكاء الاصطناعي سيغير العلاقات الدولية؛ لأن الدول سترغب في متابعة شكل من أشكال الإمبريالية الرقمية، ومن الأفضل أن تضع أيديها على نماذج أفضل للذكاء الاصطناعي. وتأخذهم العزة بعدها إلى أبعد من ذلك، وقالوا بأن الذكاء الاصطناعي «سيغير نسيج الواقع»، واسمحوا لي أن أقول بأن رأيهم هذا يرتقي إلى درجة الجنون.

يكتنف الذكاء الاصطناعي حاليًا الكثير من الشك، وهو ما يجعل الأمر مسليًا، ولكننا في الوقت نفسه، نأتي على معلومات كثيرة تفيد بأن الذكاء الاصطناعي سيُحدث ثورة في الفن والإعلام والتكنولوجيا والسياسة، وفي أدمغتنا وعلى شكل الحياة على الأرض، إلا ان الأدلة المتاحة حاليًا تفيد بأن الذكاء الاصطناعي سيكون منافسًا لمحركات البحث، وقد يكون مفيدًا في كتابة مذكرة أحيانًا أو تعبئة تقارير روتينية. تعد تطبيقات الذكاء الاصطناعي أداة جديدة وممتعة، ولكن لا يوجد دليل على أنها ستصل إلى أكثر مما هي عليه اليوم، ولو تبين أني مُخطئ مستقبلا، فسأعتذر وسأرحب بأسيادنا الروبوتات.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *