Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

الرقم المطلوب غير متاح حاليًّا

 

– رقم 506.

تقدّم زياد، العرق يقطر من شعر حاجبيه، لا يشعر إلّا بدقّات قلبه المتزايدة، وبقدميه المنتفختين. الكارّة تنتظر لتحمل 6 أكياس من الطحين، و200 كيلو من اللحم البشريّ، على الأقلّ.

– يا زلمة انتبه، شو؟ أعمى! بدّك تطيّر رجلي؟

 

كارّة أخرى اصطدمت بالكارّة الّتي يجلس على طرفها زياد، وكادتْ تكسر قدمه. 

الشارع الرئيسيّ في «مخيّم النصيرات» يشبه شاطئ بحر غزّة في شهر تمّوز. رائحة النفايات تفوح فور الوصول إلى المخيّم كعلبة السردين فور فتحها. لم يغلق زياد أنفه، اعتاد الرائحة، أصبحتْ جزءًا منه، وهو جزء منها. الناس جالسون على الرصيف، وجوههم ملوّنة بلونه، وشعورهم كلون الحوائط البيضاء الكالحة.

الدكتورة لمار الّتي اعتاد زياد التذمّر من صعوبة امتحاناتها تجلس مقابل كراج سيّارات مقصوف، أسدال صلاتها تشرب عفونة الحرب، تشعل نارًا صغيرة في علبة كوكا كولا، تضع فوقها صحنًا معدنيًّا، وتطهو حفنة عدس مجروش لا طعم له ولا رائحة. لمحها زياد، أحسّ بالحزن يحيط بكلّ خليّة في جسده، لم يبكِ.

– شو؟ لقيتْ إشي؟

– لا والله يمّا، بسّ استلمتِ الطحين.

 

ارتسمتِ ابتسامة باهتة على وجهها، وقالتْ: 

– طيّب تضلكاش قاعد جوّا يا حبيبي، خلّي البنات ياخدوا راحتهم. 

 

استجاب لكلمات أمّه، خرج ليملأ دلو الماء، شرب الحصان ولم يرتوِ، أعاد ملأه مرّة أخرى ولم يرتوِ، المتبقّي من الماء قليل؛ فتركه بعطشه. نظر في عينيه، وأدرك أنّه حتّى الحصان في هذه البلاد منكوب. الخيبة تلطم روح زياد، لكنّه لم يبكِ.

ذهب ليجلس في بقعته المفضّلة. كان عليه أن يختار بين مشهدين: 3 شجرات زيتون تتمايل أغصانها مع كلّ نسمة في صباحات الشتاء المشمسة، وثقب في الحائط يقارب حجم مثلّث المهندس المعماريّ يطلّ على الشارع الرئيسيّ في الحارة. لطالما كان الاختيار من أكثر الأشياء المربكة بالنسبة إليه، فزياد الّذي أحبّ أن يقطن في المنطقة الرماديّة، في المنتصف، بين الشيء ونقيضه، بين الصواب والخطأ، وإن كان ثمّة أكثر من احتمالين للأشياء فهو لن يرهق نفسه بالتفكير فيها، سيرميها بعيدًا إلى أن يقدر عقله على تحويلها إلى اثنتين فقط.

اليوم سيدفن زياد خوفه تحت شجرة توت العلّيق حتّى يعود إلى بيته، سيدفنه وخوف آخر يتكاثر في صدره، ألّا يعرف نفسه. حين يحنّ إلى بيته يختار أشجار الزيتون. يخلع حذاءه وجوربيه، تلامس قدماه الأرض إلى أن تعتادا ملمس التراب، يشعر بهما تلتحمان بالأرض، ويرفع رأسه ليتأمّل تداخل أغصان الزيتون وزرقة السماء، الّذي يشبه تمامًا لوحة أزهار اللوز لفان جوخ. حين يحنّ إلى نفسه، يلفّ الكرسيّ ناحية الثقب ويراقب تحرّكات العالم وثبوته. الصبية لا يزالون في الشارع، الرجال يجلسون على المصاطب كعادتهم، ركوب الدرّاجات أصبح مباحًا للنساء، ووسيلة التنقّل الشائعة هي كارّات الحمير.

– يا زلمة، شو قاعد بتعمل لحالك؟ كلّ يوم قاعد في هالزاوية.

– ولا إشي، خلص ميرا بكفّي تتحركشي فيّا، سيبيني لحالي.

 

تستمرّ المضايقات لربع ساعة إلى أن يقوم زياد عن كرسيّه ويلاحقها، فتركض ميرا إلى المطبخ:

– ماما، زياد بدّه يضربني؛ لأنّي مزحتْ معاه شويّ.

– زياد إنتَ الكبير… يُفْترَض تكون أعقل منها، شو يعني مزحتْ معك شوي؟ الله يرضى عليك يمّا بدّك الناس يطردونا يعني؟

 

يعود ليراقب الشارع، لكن لا يستطيع، فوحدته الّتي جزّتها ميرا، تحتاج إلى يوم آخر على الأقلّ حتّى يستطيع استرجاعها. يفتح هاتفه، يعيد مشاهدة الـ 3,678 صورة للمرّة المليون. في الجمعة الثالثة من شهر تشرين الثاني، كانت رائحة طنجرة المقلوبة تفوح من الطابق الأوّل، وصوت تذمّرات زياد لأنّ أمّه أضافتْ جزرًا وفليفلة وصل إلى بيت الجيران. الساعة الواحدة مساء من الخميس الأوّل من شهر كانون الأوّل، كان جفناه أسودين بعد عراك مع مساق «علم الاجتماع» الّذي اجتازه مؤخّرًا بمقبول. قبل عامين، حين كان لا يزال في المدرسة، تغيّب عن الحصّة الأولى ليلتقط صورة جميلة لشروق الشمس، وعندما أخبر أستاذ فكري بهذا السبب، لم يكتفِ بضربه مرّة واحدة كبقيّة المتأخّرين بل ضاعفها إلى عشرين؛ لأنّه بكلّ بساطة يرى أنّ زيادًا هامل ووقح أيضًا.

دائمًا ما يجد صورة سقطت سهوًا، هذه المرّة وجد صورة للعمارة المقابلة، وهي في طور البناء، كان غاضبًا لأنّها ستسرق الشمس، وتُحوّل غرفته إلى بئر مظلمة، لكن حين بدأت الحرب ابتهج لأنّ وجود هذه العمارة يعني – بمفهوم المواطن الغزّيّ الساذج الّذي يظنّ أنّ هناك بقعة آمنة – أنّ غرفته آمنة كغرفة أمّه.

– زياد، هالمرّة عنجد بتحركش فيك، تعال الغدا جهز.

– كزّابة ميرا زي كلّ مرّة.

– إنتَ حرّ، عنّك ما إجيتْ.

 

يتأفّف زياد، ثمّ يركض إلى الغرفة؛ لأنّه يعرف أنّه إذا كانت ميرا صادقة فلن ينتظروه لأكثر من ثانيتين. تضع خالته صينيّة المعكرونة الطويلة الحارّة، وقبل أن يستطيع زياد شمّ رائحتها، والتلذّذ بالقضمة الأولى، نُسِفَتِ الصينيّة. تراجع إلى الخلف محدّقًا في وجوههم وهم يتحوّلون إلى وحوش نهمة تلتقط طعامها بسرعة البرق، غير آبهة بطعمه أو لونه. الجوع ما زال يعصف في معدته، لكنّه لم يبكِ.

– لا يمكن الوصول إلى الرقم المطلوب حاليًّا.

 

هذه المرّة الستّون الّتي يحاول فيها زياد الاتّصال على أبي سامي لكنّه لا يجيب، فسئم وشتم الاحتلال ستّين مرّة. أرسل إليه رسالة يقول فيها: أبو سامي، يا زلمة بربّك بدكاش تردّ؟ بديت أقلق.

بعد ساعتين، اهتزّ الهاتف: “استشهاد الصديق والحبيب محمّد سامي قريقع الملقّب بـ ’أبو سامي‘ أثناء قيامه بأنشطة تفريغ نفسيّ للأطفال في «مستشفى المعمدانيّ»”.

وقف زياد، نظر إلى هاتفه، قرأ الخبر، ثمّ اخترقتْ نظراته عينَي أمّه، كان هادئًا كالبحر في الأيّام المشمسة من شهر كانون الأوّل. قال لها بصوت مكتوم:

– يمّا، أبو سامي استشهد.

 

لم يعُد لمشاهدة الصور؛ فهو لا يريد أن يلمح أبا سامي، ولم يتّصل بأحد بعدها لأنّه لم يُرِدْ أن يرى اسمه. تذكّر معلّم التربية الإسلاميّة في الصفّ الثالث الابتدائيّ، وهو يسألهم:

– شو رح تعملوا لو عرفتوا إنّه اليوم آخر يوم إلكم ع وجه الأرض؟

 

كان زياد يصدح بإجابة واحدة دائمًا:

– رح نضلّنا نصلّي وندعي ونقرأ قرآن يا أستاز.

 

لم يتخيّل يومًا أنّ الموت سيكون أليفًا بالنسبة إليه؛ أنّه سيستمع إلى فيروز تغنّي «أهواك»، ويفكّر في حبيبته، أنّه سيحتسي فنجان قهوته الأخير ويتلذّذ به، أنّه سيرسم لوحة أخرى، أنّه سيجلس في منتصف الأرض يراقب مداعبة أطراف الشجر للسماء، أنّه سيرفع إصبعه الأوسط في وجه كلّ طائرة حربيّة يلمحها، أنّه سيجلس مطمئنًّا إلى هذا الحدّ، مستمتعًا بوجبته الأخيرة، ولا يقرأ القرآن طوال النهار، لم يتوقّع أنّه سيفعل كلّ هذا وهو ينتظر موته. كلّ ما يريده الآن هو موت مفاجئ هادئ مطمئنّ سريع، موت يشبه العاديّ، لا يريد أن ينتظر لأنّ هذا هو تحديدًا ما يعنيه الموت.

استلقى زياد على مخدّة صلبة كالطوب، أنفاسه تتشكّل بالقرب من وجه ميرا وهو يحسب عدد مرّات شتمه للاحتلال، اليوم وصل إلى 2,017 مرّة و19 قالها الآن لمّا ارتعش جسده؛ فحقيبته لم تتّسع سوى بيجامة شتويّة واحدة، ثمّ 23 أخرى لأنّ صوت ارتطام قطرات المطر بسقف الزينكو يشبه صوت رصاص طائرة الأباتشي.

– زياد، فيك تلفّ وجهك؟ لأنّه نفَسك قاعد بيطلع في نصّ وجهي وبيخنقني…

– شو بتعملي ميرا؟

 

خبّأتْ هاتفها بسرعة، وقالتْ: ولا شي. كانت تقرأ «سورة الأنفال» آية رقم 132، لم تُرِدْ لأحد أن يعرف عن علاقتها باللّه؛ لتشعر برسائله وحدها، فتبكي وتبتسم وتخاف وتطمئنّ في نفس اللحظة.  

يهتزّ الهاتف أسفل المخدّة، رسالة من باسمة، “آسفة كتير، دكتور رفعت استشهد”.

امتقع وجهها، غادرتْ فراشها بهدوء كي لا توقظ أحدًا. لمحها زياد، لكن ليس من شيء غريب؛ فدائمًا ما تغادر ميرا فراشها في الساعة 10:30 مساء؛ لتطمئنّ على أصدقائها.

اتّصلتْ على باسمة، “لا يمكن الوصول إلى الرقم المطلوب حاليًّا”. جسدها يرتعش، والدموع تنساب من عينيها، “لا يمكن الوصول إلى الرقم المطلوب حاليًّا”. ميرا القويّة كلبؤة يحوّلها خبر موت، لمّا تتأكّد من صحّته بعد، إلى قطّة صغيرة ينهشها الهلع، “لا يمكن الوصول إلى الرقم المطلوب حاليًّا”. الصبر يغادر جسدها.

– في المرّة الخامسة تجيب باسمة:

– آسفة، ميرا، آسفة.

– باسمة، شو اللّي بتحكيه؟ جدّ؟ جدّ بتحكي؟

– آه، قبل شويّ استشهد و…

 

تغلق ميرا المكالمة. العالم يبدو ضبابيًّا باهتًا مظلمًا كغابة، تنهار الأشياء من حولها، تهتزّ قدماها مثل كرسيّ مساج شُغِّل على السرعة القصوى، الدموع تغطّي عنقها. تجرّ نفسها حافية في الممرّ المظلم المؤدّي إلى الغرفة، الحزن يسلخ ابتسامتها، يسرق منها أنفاسها، والعظمتان البارزتان في ظهرها تؤلمانها بشدّة كأنّ شيئًا ما سيخرج منهما. تسقط في منتصف الممرّ، وتتكوّر على نفسها. الوجع ينهشها، يبدأ بالجلد ويشقّ طريقه إلى العظم، يلتهم نخاعها ويحلّ مكانه. صفعتْ نفسها، شتمتْ باسمة ونعتتْها بالكاذبة، لم تُرِدْ أن تصدّق، لم تُرِدْ أن تدرك رحيله. الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فتح زياد عينيه، لم يجد ميرا، فذهب ليبحث عنها. وجدها ملقاة على الأرض وحيدة تائهة، وتبكي كما لم تبكِ من قبل.

– سألها: ميرا، شو مالك؟

 

التفتتْ ناحيته، إلى أن تلاقتْ عيناها الحمراوان وعيناه:

– استشهد، قتلوه يا زياد قتلوه. متزكّر لمّا كنّا نحضر ع الجزيرة شيرين أبو عاقلة وهي بتنقل أخبار؟ متزكّر كيف كنّا نسمع دايمًا أمّهات الشهدا بحكوا إنّه انكسر ضهرهم؟ متزكّر كيف كنّا نفكّرهم بحكوا مجاز؟ كسرولي ضهري يا زياد، أخدوه وكسروا ضهري.

– مين يا ميرا؟ مين؟

– دكتور رفعت، يا زياد، رفعت العرعير…

 

صُدِم زياد، لم يعرف بأيّ كلمة يواسيها؛ فميرا الّتي كانت أكبر خساراتها انسكاب فنجان القهوة على كتابها المفضّل تختبر الفقد للمرّة الأولى.

– البقيّة بعمرك، قلبي معك يا ميرا وحاسس بوجعك، دكتور رفعت كان قامة كبيرة وروح حرّة، والوحش الصهيوني ما خلّى بشر ولا شجر… حتكوني أقوى بألف مرّة بعد الحرب، صحّ الإشي مش بريء وكتير صعب، بسّ الحياة ولا مرّة كانت سهلة للناس الحرّة.

 

ثمّ تركها لترمّم نفسها، وعاد إلى فراشه، لم ينَم، بقي يستمع لميرا تلعن وتشتم وتصرخ وتبكي وتضرب نفسها. انتظرها إلى أن عادت، ثمّ التفت ناحية الجدار، وشتم الاحتلال كثيرًا.

انتفض زياد من فراشه على صوت اهتزاز الأرض. كانت أمّه وخالته تحاولان جرش القمح باستخدام حجارة صوّان بحجم كفّ اليد وكيس نايلون أزرق مهترئ. غسل يديه ووجهه متجنّبًا النظر إلى المرآة. أمسك أكبر حجر، وبدأ يطرق القمح بقوّة توازي الانكسار الّذي سبّبتْه له مشاركة البهائم طعامها. يُطرق ويستمع إلى صوت القذائف تمرّ من فوق رأسه، يُطرق ويشعر بالجوع يلتهم ما تبقّى من معدته، يُطرق ويتخيّل أنّه شهيد في الجنّة، توضَع أمامه وجبات شهيّة بكمّيّات هائلة، فيأكل بنهم ولا يجوع بعدها، يُطرق وهو يفكّر في ميرا الملقاة في فراشها، يُطرق وهو يستمع بغضب إلى اهتزاز الهاتف معلنًا استشهاد الأصدقاء الواحد تلو الآخر: 

استشهاد الطفلة رغد فروانة

استشهاد يوسف دوّاس 

استشهاد…

وضع الحجر جانبًا، جلس في زاوية الحمّام وبكى بشدّة. كانت الدموع تتجمّع في بقعة واحدة تكبر كلّما تذكّر صديقًا آخر. رفع رأسه كما اعتاد أن يفعل كلّما أنهكه العالم. الضوء الأصفر الشاحب يؤلم عينيه، لكنّه يستمرّ في النظر إلى السقف المتشقّق، ولا يسأل سوى سؤال واحد: إلى متى، يا الله؟

 


 

بتول أبو عقلين

 

 

كاتبة وشاعرة فلسطينيّة من مواليد مدينة غزّة عام 2005. طالبة آداب لغة إنجليزيّة، فرع الترجمة في «الجامعة الإسلاميّة». حازت على «جائزة بارجيل الشعريّة» لعام 2020. نُشِرَتْ نصوصها في العديد المجلّات والكتب، وتُرْجِمَتْ إلى لغات مختلفة كالإيطاليّة والفارسيّة.

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *