Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

الشاعر خلاص التغريبة… هاشم شلولة

 

هل سيتبقّى لشعراء قطاع غزّة ذاكرة ينحتون منها نصّهم المفتوح، ويعلّقون قصائدهم على شجرة المعنى باسم الخيبات والرجاء وطاعون الصدمات؟ سؤال مصقول من تبر التماثيل الصمّاء، ليس بريئًا؛ سوى أنّهم يصارعون الحياة والحرّيّة والبطش وانقطاع الهواء الأخير، وهذا باعتراف هاشم شلولة في مجموعته «ماذا لو عرفنا أنّنا غرباء؟»، الصادرة عن «رواشن للنشر» (2022).

شلولة ينصّب نصّه نبيًّا للديستوبيا الشعريّة، هاجرًا المظلوميّة الأرضيّة إلى الخلاص التحرّريّ المتحوّر، ومن عتبتها الأولى، يكتب:

“والسيف يحكي؛ أنا وجه التقاطع، وانتباه الجهات إلى الفريسة، أرشدتْني الكلمات إلى أبدي المعتِم؛ رافقتْني بقنديلٍ وحدسٍ متعَب.

يا رياح؛ يا أمّهات!

اجتذبنَني إلى مسارات بدايتي الحزينة”[1].

 

تخصّص «رواشن للنشر» سلسلة أبواب معنيّة بمشاريع النشر الشخصيّ والنصوص المفتوحة، وأمّا النصّ المفتوح فهو المصطلح الّذي تطوّر في التراث النقديّ الحداثيّ؛ بنقل الوزن من المعنى النصّيّ المستقلّ إلى فتيل التأويل القرائيّ التواصليّ، منذ البنيويّين الّذين عزلوا النصّ المكتفي بذاته كما وصفه تودوروف، وصولًا إلى أمبرتو إيكو الّذي أسّس لمفهوم الأثر المفتوح، إذ يؤسّس النصّ علاقاته بالخارج، إلى أن يصبح النصّ المفتوح شكلًا من أشكال الكتابة الجديدة، وأثرًا من ثقافة ما بعد الحداثة المتمثّلة بجاك داريدا (1930 – 2004)، ولاكان (1901 – 1981)، ورولان بارت (1915 – 1980)، وميشيل فوكو (1926 – 1984). أسوق هذا التقديم الأكاديميّ الجافّ لما يحرّضني من إسقاط نصّيّ مباغت على واقع حرب الإبادة الصهيونيّة الجارية الآن في قطاع غزّة.

 

الغزّيّ المنسيّ

قطاع غزّة بقي وحده، وشعراؤه مهما كتبوا نصّهم المفتوح فسيظلّ معطَّلًا؛ بدافع الانفصال الكلّيّ الّذي يشهده الصمت العالميّ والعربيّ وحتّى الفلسطينيّ. قطاع غزّة يقرّر أن يكون نصًّا مُغلقًا مكتفيًا بذاته، وهذه هي الحقيقة، لا زيادة ولا نقصان فيه. وربّما بالحسّ المتنبّه لدى شلولة، ولأنّ قصيدته مستشرفة يكتب: “يا آدم الأخير، هل نسيتني؟[2] في قصيدته «إلى أب». وهذه الـ ’إلى‘ كلّ الحكاية في التعويض الديستوبيّ عن كلّ إغلاق لمجاري السمع.

لم يترك الغزّيّ صرخة أو لهجة أو لسانًا أو عزمًا إلّا ونادى به وصوّت؛ والتصويت هنا من معادِلات الصوت المتقطّع المنهك، في ما تبقّى له من هواء أخير في رئتيه. ’إلى‘ تختصر معجمًا لسانيًّا وحضاريًّا كاملًا في لغة هاشم شلولة الشعريّة، ولو كنت أعرفه شخصيًّا الآن وهو تحت أبابيل الإبادة، لقلت له اكتفِ بـ ’إلى‘ عنوانًا ووسمًا نهائيًّا لقصيدتك.

قطاع غزّة بقي وحده، وشعراؤه مهما كتبوا نصّهم المفتوح فسيظلّ معطَّلًا؛ بدافع الانفصال الكلّيّ الّذي يشهده الصمت العالميّ والعربيّ وحتّى الفلسطينيّ…

أشعر بخجل مريب وأنا أكتب عن مجموعة شلولة، وأنا لا أعرف مصائر أهله ومدينته، وهو بالتأكيد الآن من النازحين في قطاع غزّة، النصّ المغلق، النصّ الّذي أرادت له القرارات الرسميّة الأمميّة أن يكون مغلقًا، وقطاع غزّة يحاول أن يسطّر نصّه المفتوح على اليوتوبيا؛ لأنّه كان يملك شروط المدنيّة والحضريّة باعتراف ذاكرتها الحضريّة والاجتماعيّة والملاحيّة.

لكن قد تكون الكتابة عن قصيدة شلولة بمنزلة دفاع عن تواطؤ ضمنيّ، حيث أُسْكِتنا ورضينا بذلك في معمعان الديستوبيا والمرارة. وقد تكون الكتابة بإحالات نقديّة عن قصيدة شاعر غزّيّ تحت وطأة الحرب، أكثر ما يتيح للشاعر أملًا عن بقايا الأب الحاضر في قصيدته: “الطير استبضَعَتْني، رغم أنّه لا جناح لديّ… لكنّه الشعر أب للنيام والموتى”[3]، في قصيدة «ماذا لو؟».

يعوّض الشعر رمزًا وعرَضًا إنسانيًّا عن الغياب الأبويّ الإلهيّ في مصائر النيام والموتى، ولعلّ الاستبضاع من سمات الحالة العامّة للفهم الخارجيّ عن الذهنيّة الغزّيّة، وللمفارقة، ففي هذه الإبادة، وربّما للمرّة الأولى يكون هذا التصويب الكبير ثقافيًّا وتاريخيًّا؛ في محاولات حثيثة لفهم تشكّل الفسيفساء الغزّيّ الاجتماعيّ والثقافيّ في أذهان مَنْ هم خارج القطاع، الهائمين في المخيال الأحاديّ عن الناس فيها، وعن أدبها كذلك. الأب الشعر، وهو الفنّ عند شلولة، بعد أن تخلّى الآباء الأرضيّون والسماويّون عن قطعة فلسطينيّة مثّلت في الماضي البعيد والقريب بوّابة النور الجماليّ، عن المدينة والساحل الفلسطينيّ وثقافته المفتوحة على التعدّد والاتّساع.

 

الآخَر إنسانًا

في قصيدة «عازف البيانو اليهوديّ» في المجموعة نفسها، يكتب شلولة:

“أرتجف الآن كأنّي يهوديٌّ من ضواحي وارسو

 أرى الرحلة الّتي ضيّعها التاريخ

في التراتيل المقدّسة”[4].

 

ثمّ يتابع:

“يهود بولندا الصغار يبكون

وأدخنة الأفران تمتزج بدموعهم”.

 

لا تترك هذه القطعة الشعريّة مجالًا للشكّ في أنّ النصّ الغزّيّ المفتوح متفوّق بالحسّ الجماليّ والأخلاقيّ على نصوص العالم الحرّ، الأبيض، القبَليّ، الما بعد حداثيّ، الّذي قعّد فكرة التفوّق واحتكار الآدميّة، المستعلية على كلّ فرد من جماعة أصحاب المظلوميّة الكبرى في القرن الأخير.

أريد أن أتخيّل شعراء إسرائيليّين يقرؤون هاشم شلولة في قصيدة «عازف البيانو اليهوديّ»؛ شعراء انضووا بعد السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 تحت ظلال الفاشيّة في خطاب عن الحرب العادلة. ماذا يمكن لشاعر يهلّل للانتقام أن يقول عن شاعر غزّيّ يكتب عن يهود بولندا، ويكتب “كأنّني يهوديّ من ضواحي وارسو؟”.

لا يعبّر شلولة عن الآخر بوصفه إنسانًا؛ من باب اختزال ولع المغلوب بغالبه، وتماهي المستعمَر مع المستعمِر، لكنّها حالة خروج من سطوة الجماعة الأمّ، إلى حالة مركّبة وأشدّ تعقيدًا، إلى التشبيه البلاغيّ للغوص في سؤال الضدّيّة، كما أنّ الحياة تتّسع بطبيعتها وجوهرها للأضداد، وكذا يحاول شلولة، بصفته ابنًا لجماعة الضحيّة، أن يوسّع ضيّقًا عنه وعن جماعته؛ ليذهب بالتشبيه إلى أقصاه. وهو يكتب عن الضدّيّة مفهومًا من هدم ومحو:

“في المرايا لا أراني

ظهري أمامي

كأنّي ضدّ أخير”[5].

 

هذا المعادِل المنقلب ينسحب على بنية الديستوبيا، ويردّ الأشياء إلى طبيعتها الضدّيّة، وهو مفهوم بنيويّ، حيث لا يرى الرائي حاله في مرآة نفسه، بل في صور الآخرين، وما كان غائبًا من لعنة، عليه أن ينجلي مادّة وجسدًا أمامه، وهذا هو الضدّ الأخير للغزّيّ الّذي يرى عين الحقيقة كلّها الآن، وحده.

“أَضِئ قلبي مرّة أيّها الجنديّ

مرّة واحدة

لأنطق”[6].

 

يتعمّد شلولة هنا الاستمرار بإقامة علاقته بالآخر؛ من خلال أشدّ المفارقات الّتي قد تحدث تحت وطأة الإبادة والحرب. في هذا النصّ تنهض المفارقة على مستويات ثلاثة: سرياليّة، لغويّة، حسّيّة. إنّه مشهد عبثيّ بأن يأمر الجنديَّ بإضاءة قلبه، وكأنّ الجنديّ يأتي حاملًا شعلة نور لا سلاحًا فتّاكًا، ومن خلال هذا السلاح عليه أن يضيء قلب الخصم. الجملة طلبيّة، ببنيتها، وهي تتأسّس على الطلب ثمّ تأخير جواب الطلب، أضِئ لأنطِق، شرط تحقيق النطق يسبقه تحقيق فعل الإضاءة، وهو ما لا يتخيّله عاقل في الشرط الحربيّ الحاصل. ثمّ يفعّل شلولة ’السنستييزا‘؛ أي تراسل الحواسّ أداةً، بإقامة علاقة حسّيّة متخيّلة أغلب الظنّ، بين حاسّتين متنافرتين، قوام الأولى البصر أو البصيرة في ضوء متحقّق من الجنديّ، وقوام الثانية النطق من حنجرة مقطوعة الأوصال. إقامة الضدّيّة الحسّيّة في إطار متراسل يبدو كأنّه ضدّ أخير، لا يمكن للشعر أن ينهض من بعد هذه الطلقة الأخيرة إلى عالم من الديستوبيا، الّتي تقلب الموازين والأعراف البشريّة البديهيّة.

 

التضادّ مع المقدّس

لا يمكن للشعريّة الساعية إلى اختراق الحدود الأبستمولوجيّة والجماليّة، إلّا أن تخلق شرطها الوجوديّ الجديد في محار المدينة الفاسدة، ويكتب شلولة: “أجسادنا عادت إلى الطين لتبتكر المتعة وسؤالًا”[7]. مشيئة عودة الأجساد إلى الطين دفعٌ باللغة الشعريّة والوجود إلى هيولى الخلق الأوّل؛ لأنّ الشاعر ساعٍ إلى غايتين ابتكاريّتين؛ الأولى فنّيّة ماتعة والثانية فلسفيّة فاحصة.

بعد السأم المتواصل من التعويل على المجهود الوجوديّ السائد، الصاعد من تحت إلى فوق، تأتي اللحظة الشعريّة لتعيد تشكيل الأشياء من فوق إلى تحت، من الفساد الغيبيّ المتخيّل إلى المجون الأرضيّ المرّ. يكتب شلولة أيضًا: “لأنّ الماء شرّ”[8]، وهو معادل التضادّ مع المقدّس الّذي جعل من الماء كلّ شيء حيّ. إنّ العلاقة الّتي تشكّلها شعريّة شلولة مع الماء والعناصر الهيوليّة الأولى علاقة فساد، وفي متن وجودها العبث بالحرام، كما يقول: “وأنا؛ ابن شيخ الردّة”[9]، لا بدّ من أنّه بإعادة القبض على معاني الهدم ثيمات وشكلًا، فإنّه يقيم فردوسه المحرّم من لغة وشعر وسؤال.

“أتيتُ عائدًا

وعدتُ آتيًا

سألتُ عمّن خلق السؤال

وأعدّ لحرّاس المتحف الفطور

خلعتُ من القصّةِ القاصّ

وكذلك، فعلتُ مع الخلق”[10].

 

امتلاك الفعل بإحالة للمتكلّم الضمنيّ في إلغاء الحدود بينه وبين صاحب الخلق، ويذهب أبعد من ذلك؛ إلى خلع الخلق من صاحبه، وخلع الحكاية من الحاكي، ومصادرة هذه الذاكرة الرمزيّة؛ ليبدأ العودة الجديدة، بلغة شلولة المُسْقَطَة في المدينة الفاسدة.

 

الشعريّة التحرّريّة

لا يكتب شلولة إلّا من أعماق المخيال التحرّريّ، حين تضيق الأحلام يرحّب الشاعر بلغته إلى فضاءات اقتحاميّة وصداميّة جديدة، وهنا تكمن خطورة الشعر، في مبارزة البديهيّات وخلخلة ميزان الوجود بوجود موازٍ يكشف زيف المخلوقات الطوباويّة. يكتب الشاعر: “لأشعر بالحرّيّة، عليّ بالاختناق أكثر دون خوض حوارٍ مع الوقت”[11]. يدرك المفسد الحرّ أنّ حربه ليست على سرقة مزيد من الهواء الملوّث، علّ بالاختناق وتجاهل الوقت المتبقّي ما يقوده إلى فعل تحرّريّ أصيل. الخلاص في حدّ ذاته في التغريبة الغزّيّة يمثّل الطريق والغاية.

وأخيرًا، يكتب شلولة في مجموعة سابقة صدرت في عام 2021 عن «رواشن»: “أعود على مضض إلى اسمي، إلى استعجال العمر للوداعات والمتروك من الخفايا والمرايا على رفوف السؤال الكبير، أعود إلى أبدي، إلى جرحي الأزليّ العتيق، مسكونًا بالرثاءات، وما ظلّ من ذاكرة المسافرين”[12]. يشكّل الجرح الأزليّ والعودة إلى السؤال عن الأبديّة نزعة لصدمة الإنسان المتروك المنسيّ، والشاعر خلاص التغريبة وجوهرها المكتسب من تجارب الجماعة.

لغة هاشم شلولة الشعريّة تتفرّد بمسوح جشطلتيّة، بإعادة إنتاج الأجزاء وعلاقاتها الّتي فسدت، نحو المدينة المتخيّلة القادمة بالمشيئة على أنقاض الخسارة والفوضى.

 


إحالات

[1] هاشم شلولة، ماذا لو عرفنا أنّنا غرباء؟ (الإمارات: رواشن للنشر، 2022)، ص 5.

[2] مرجع سابق، ص 62.

[3] مرجع سابق، ص 24.

[4] مرجع سابق، ص 34.

[5] مرجع سابق، ص 59.

[6] هاشم شلولة، بلاد نُسِيَت في حقائب المهاجرين، فُسْحَة- ثقافايّة فلسطينيّة، موقع عرب 48، 19/11/2023، شوهِدَ في 24/1/2024: https://shorturl.at/puEKX

[7] ماذا لو عرفنا أنّنا غرباء، ص 29.

[8] مرجع سابق، ص 29.

[9] مرجع سابق، ص 28.

[10] مرجع سابق، ص 25.

[11] مرجع سابق، ص 31.

[12] هاشم شلولة، سيأكل الذئب مَنْ ينتبه (الإمارات: رواشن للنشر، 2021)، ص 64.

 


 

علي قادري

 

 

 

من مواليد قرية نحف في الجليل. شاعر ومعلّم للغة والأدب العربيّين في المرحلة الثانويّة بمدرستي «مسار» – الناصرة، و«ابن سينا» – نحف. يعمل محرّرًا أدبيًّا لمجلّة «الغد الجديد» الثقافيّة، الصادرة عن «جمعيّة المنار للثقافة والهويّة الفلسطينيّة». له مجموعة شعريّة بعنوان «ثلاثون خرابًا… وجثّة».

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *