Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

القرية المنسيّة الّتي حوّلت إلى “كريات ملآخي”

تراوح تعداد سكّان القسطينة حتّى عام تهجيرهم، ما بين 1000 و 1200 نفر، ومنذ الاستعمار البريطانيّ للبلاد أصبح للقرية مختارين، من عائلتي “العثامنة وريّان”، فقد كثرت عائلات وحمائل القرية، والّتي كان أصول بعضها يعود إلى مصر

راعي أغنام في قرية القسطينة (1940)

ملاحظة: هذه المادّة هي الثالثة ضمن سلسلة قرى قضاء غزّة المهجّرة الّتي حوّلت إلى مستوطنات ما يعرف بغلاف غزّة، والّتي ننشرها تباعًا…

“اللي عندو مرا سمينة يودّيها على القسطينة”…(1) مثل كان شائعًا في القرى المحيطة بالقسطينة في ديار غزّة قبل النكبة. لم أفهم بداية، ما الّذي يرمي إليه المثل وعلاقة القرية بسمنة النساء، غير أنّ في مقابلة مع الحاجّ محمّد عبد الرحمن أبو سعود، تبيّن أنّه مثل متّصل بذاكرة الملاريا والأمراض المعدية الّتي كانت تنبعث من وداي القرية، وتفتك بأهلها طوال التاريخ العثمانيّ، فقيل إنّ أجساد أهالي القسطينة كانت نحيلة لا تكسب، بسبب ملاريا الواد الموسميّة، إلى الحدّ الّذي كانت حدّة الملاريا تجعل أهالي القرية في بعض السنين غير قادرين على ردّ الذئاب والكلاب الضالّة عن حظائر قطعان غنمهم (2). مع الاستعمار البريطانيّ للبلاد، صارت الملاريا أقلّ وطأة على أهالي القسطينة، ومع ذلك، ظلّت ذاكرة الملاريا محلّ تندّر لدى أهالي القرية والمنطقة عمومًا، وذلك بنصح من يعاني من سمنة زوجته إرسالها للقسطينة لكي تنحف فيها (3).

يقول أهالي القرية المهجّرين منها، إنّ القسطينة تسمية مشتقّة من مدينة القسطنطينيّة التركيّة، دون أن يعرفوا كيف ولماذا(4)، فيما صاحب موسوعة “غزّة عبر التاريخ” يكتفي بقول: “يبدو اسمها رومانيّ الأصل”(5)، بينما صاحب اتحاف الأعزّة يشير في معرض حديثه عن تاريخ غزّة في العصر الرومانيّ إلى دور قسطنطين الملك الرومانيّ في استقلال غزّة وبناء مينائها، وأطلق عليها وعلى محيطها تسمية “قسطنطينة” بعد أن جعل لها أسقفًا، فسمّيت القرية باسمه مع تحريف، وأنّ الملك قسطنطين شرفها، وسمّيت قسطنديًّا (6).

منظر إلى الشرق من مركز موقع القرية، 1990

كانت القسطينة تقع على بعد 46 كم إلى الشمال الشرقيّ من غزّة المدينة، وتحيط بها أراضي قرية تلّ الترمس من الشرق، بينما المسمّيات وتحديدًا الكبيرة من شمالها، فيما قرية ياصور وأراضي تعبيا الّتي أقيمت عليها أوّل كوبانية صهيونيّة من الشمال الغربيّ للقرية، ومن غربها مباشرة كانت قرية البطّاني، أمّا من جنوبها، فكانت تحدّها السوافير، وكانت مساحة أراضيها حتّى عام النكبة تساوي ما يزيد عن 12000 دونم، منها 3135 دونمًا امتلكها اليهود منذ مطلع القرن العشرين(7).

سجّاديّة منبسطة فوق أرض سهليّة كانت القسطينة في طوبوغرافيّتها، وعلى بعد أقلّ من كيلومتر من جنوبها كان يمرّ واديها؛ وداي القسطينة، هكذا كان يسمّيه أهالي القرية، والّذي كان يأتي من جبال الخليل شرقًا حاملًا ماء الشتاء، مرورًا بتل الترمس ثمّ تلّ الصافي إلى القسطينة، ومنها إلى البطنيّات وصولًا إلى أسدود والبحر. لم تكن مياه الوادي تنقطع فيه صيفًا، لأنّ عيون تلّ الصافي ظلّت ترفده بالماء، غير أنّ ماءه شتاء كان أكثر هدرًا حيث يصير نهرًا، وانحدار المياه في تلّ الصافي، جعلها أشبه بشلّالات، أطلق عليها القساطنة اسم “شلّالات المسنى”(8)، أمّا وادي تلّ خليفة، فكان يمرّ من غرب القسطينة، ليلتقي مع وادي القسطينة الكبير عند قرية البطنيّات.

من الطين المجبول بماء وادي القسطينة مع التبن والقصب، بنيت معظم بيوت القرية، ومعمّري القرية ظلّوا إلى ما بعد النكبة يتذكّرون “أمّ شباط”، وهي بركة كان يجفّ ماؤها صيفًا، ويستخرج أهالي القرية الطين منها بعد جبله قوالب وتحويله طوبًا للبناء (9)، لتبدو بيوت القرية كما لو أنّها استنبتت من أرض القسطينة تمامًا مثل نبات الخب والخرفيش والعنجد.

صورة لمنزل بعد احتلال القرية

تراوح تعداد سكّان القسطينة حتّى عام تهجيرهم، ما بين 1000 و 1200 نفر، ومنذ الاستعمار البريطانيّ للبلاد أصبح للقرية مختارين، من عائلتي “العثامنة وريّان”، فقد كثرت عائلات وحمائل القرية، والّتي كان أصول بعضها يعود إلى مصر، فإذا ما انقسمت القسطينة اجتماعيًّا، كانت تنقسم إلى فلّاحين ومصريّين، وقد استغلّت سلطات الاستعمار البريطانيّ ذلك، في أكثر من مناسبة في ثلاثينيّات وأربعينيّات القرن الماضي، خصوصًا، وأنّ قرى كثيرة في قضاء غزّة، كان تشكيلها الاجتماعيّ مكوّنًا من فلّاحين ومصريّين، وهو ما كان يدفع الأهالي من أصول مصريّة إلى إخفاء والتنكّر أحيانًا لأصولهم، من أجل إثبات أهليّتهم أو ملكيّتهم في قراهم (10). الملفت في أثر المكوّن المصريّ في الهويّة الاجتماعيّة للقسطينة وغيرها من القرى، هو التعابير والمسمّيات، في القاموس الفلّاحيّ الزراعيّ؛ فموقع ذرّيّ غلال الحبوب، ودرسها أي “البيدر”، كان يطلق أهالي القسطينة عليه اسم “الجرن”، وتسمية الجرن للبيدر كانت دارجة في كثير من قرى قضاء غزّة، وهي تسمية مصريّة وليست شاميّة، وهذا ينسحب على أسماء كثير من المواعين والمعدّات مثل “قواديس الماء” الّتي كان يستخدمها أهالي القسطينة، وهي جمع قادوس الّذي كان يستخدم لاستخراج ماء البئر.

كان مشرب جميع أهالي القسطينة، من بئرهم الوحيدة في وسط القرية، وقد أطلقوا عليها اسم “بير البلد”، وعلى ما يبدو، فإنّ نشأة القرية متّصلة بوجود البئر، الّتي يعود حفرها إلى مراحل مبكّرة من التاريخ الإسلاميّ، بينما المعلّم الأهمّ في القرية، كان جامعها، جامع القسطينة، والمبنى الوحيد فيها الّذي كان بناؤه من الحجر، ويعتقد بعض القساطنة أنّ بناءه يعود إلى زمن الخليفة عمر بن الخطّاب، بيمنا تعيد بعض المراجع تاريخ بنائه إلى بداية الحكم العثمانيّ على البلاد (11).

(أرشيف)

سنة 1936، تأسّست أوّل مدرسة حكوميّة في القسطينة (12)، وقبل ذلك كان أولاد القساطنة يقرؤون في كتاب جامع القرية على يد الشيخ مصلح السكافي، ومنهم من كان يسير مشيًا على الأقدام إلى قرية المسمية الكبيرة للالتحاق بمدرستها، وظلّت المسميّة وجهة أهالي القسطينة الدائمة للتعليم والعلاج وحتّى لجلب أخبار حرب الألمان (العالميّة الثانية)، حيث وصل الراديو إلى المسمية قبل القسطينة.

في الناحية الشرقيّة من القسطينة، كان يقع أيضًا أحد أهمّ معالم القرية وأكثرها ملاذًا وقداسة في ذاكرة أهلها؛ مقام الأربعين، وأطلق عليه الأربعين، لأنّ حكاية نشأته الشعبيّة متّصلة بأربعين مجاهدًا قد استشهدوا في موقعه أيّام حروب الأيّوبيّ ضدّ الصليبيّين (13)، أمّا المقام الّذي تحلّقت مساكن القساطنة حوله، فهو مقام علي الصامت، والّذي ظلّت حكاية نشأته وبنائه صامتة حتّى اليوم الأخير من عمر القرية عام النكبة. كان علي الصامت مزار الناس وضرّاب الطبل والكاس من دراويش وأتباع الشيخ صالح البشيتي في القسطينة، ومحجّ عدّة وأعلام متصوّفة الشيخ المدلّل من أبناء قرية البطّانيّ الّذين كانوا يقصدونه للتبرّك والتشفّع فيه، ومن معالم مقام علي الصامت البشريّة كانت محمّد أبو دية، ومن من أهالي القسطينة لم يكن يعرف أبا دية؟ ذلك الشيخ الكريم المقطوعة كلتا يديه من رسغهما، ومع ذلك، يقال على ذمّة أهالي القرية إنّه كان يجيد الكتابة وقادرًا عليها رغم إعاقته، لا بل هو من كان يخطّ الرقية بالريش والحبر لطالبيها منه، وحتّى أنّه كان يمكنه لفّ سجائر التبغ بشكل يثير دهشة وريبة أهالي القسطينة كلّها (14).

الكرّ والفرّ

محمّد عبد اللّه الكرّ، ذاكرة الكرّ والفرّ، في أيّام الثورة الكبرى في البلاد 1936 – 1939 على الاستعمار البريطانيّ، إذ شارك الكرّ ونظّم بعض أبناء القسطينة والقرى المحيطة للالتحاق في صفوف الثورة، وكان استهداف دوامر سكّة حديد القطار ما بين يافا وغزّة من أبرز أعمال الكرّ ورفاقه، والدوامر هي قضبان أسكلة بلهجة القساطنة الشعبيّة، إضافة إلى استهداف خطوط الكهرباء الموصولة من نهر العوجا بالمستعمرات الإنجليزيّة والصهيونيّة في منطقة الجنوب.

أطفال من قرية القسطينة 1940

وممّا ظلّ يذكره الحاجّ رزق البوادي تسلّل محمّد الكر ورفيقه أحمد عليان إلى داخل مركز الشرطة البريطانيّة في مجدل – عسقلان والاستيلاء على كلّ خيل المركز، ثمّ تهريبها ليلًا إلى عنّابة حيث يقيم حسن سلامة أحد أبرز قيادات الثورة في منطقة السهل الساحليّ (15). لم تسلم القسطينة من الطوق العسكريّ، وهو التقليد العدوانيّ الّذي مارسه الإنجليز على كافّة قرى ومضارب فلسطين في ظلّ الثورة للبحث عن مطاردين أو تفتيش عن سلاح أو لترويع الناس وترهيبهم، وقد أطلق القساطنة على ذلك اسم “طوق أبو فشكة” أي ذلك الطوق الّذي كان يمكن للإنجليز فرضه على أيّ قرية، حتّى لو كان بحثًا عن فشكة واحدة (16). وقد طوّق العسكر الإنجليزيّ القسطينة مرارًا بحثًا عن الذخيرة والسلاح.

احتلّ الصهاينة قرية القسطينة في يوم التاسع من تمّوز/يوليو 1948، على يد لواء جعفاتي، الّذي احتلّ خلال أيّام الهدنة العشرة ما بين 8 – 18 تمّوز/يوليو ما يزيد عن 18 قرية فلسطينيّة من قضاء غزّة، غير أنّ بعض القساطنة، كانوا قد غادروا قريتهم قبل الاحتلال المباشر لها، منذ آذار/مارس 1948. حيث نزل بعضهم في قرية تلّ الترمس قبل سقوطها، ومنهم من لجأ إلى قصر إسماعيل العزّة في تلّ الصافي قبل أن يحدث التهجير النهائيّ الكبير في تمّوز.

لم يحمل القساطنة شيئًا من متاعهم أو حاجيّاتهم معهم، عبر ذاكرتهم المحمولة بالكدّ والكدر على قريتهم الّتي تمرّغوا في طينها أطفالًا، وقلّبوا ترابها رجالًا، عبر سكّة جوز الخيل كما سمّوها، والمضبوطة بهزّ كرباج الحرّاثين لرسم حدود القسطينة حرثًا وغرسًا. ذكريات الجرن ومواسم الحبّ والحبّ فيه، وفاردة العروس محمولة على الجمل والسيف بين عينيها في يوم زفافها، بينما الشعير المخلوط بالملح تبريكًا مرشوشًا يغطّي وجه أرض الجرن. ذاكرة عيد القسطينة، وأيّامه السابقة عليه في سوق الفالوجة، وذرع المسالك البرّيّة إلى ساحات المجدل، وكعك العوض المحشوّ بعجوة العريش، وابتهالات الدراويش، مصحوبة بضجيج قواديس سحب ماء بئر البلد.

لم يبق الصهاينة على القسطينة، لا على بيوت طينها ولا أيّ معلّم كان على دينها، دمّرت القرية كلّيًّا في العام التالي على نكبتها سنة 1949، وأقيمت على أراضيها مستعمرتا عروخوت وكفّار أحيم، وعلى أنقاض بيوت القرية نفسها أقام الصهاينة سنة 1951 مستعمرة “كريات ملآخي” المغروزة في بدن القسطينة إلى يومنا.


إحالات:

1 _ أبو سعود، محمّد عبد الرحمان، القسطينة، مقابلة شفويّة، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين الذاكرة الشفويّة للنكبة الفلسطينيّة، تاريخ 27-5-2009.

2 _ المقابلة السابقة.

3 _ المقابلة السابقة.

4 _ البوادي، رزق حسن موسى، القسطينة، مقابلة شفويّة، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين الذاكرة الشفويّة للنكبة الفلسطينيّة، تاريخ 2-9-2007.

5 _ سكيك، إبراهيم خليل، غزّة عبر التاريخ: من أقدم العصور حتّى الفتح الإسلاميّ، ج6، ص12.

6 _ الطباع، الشيخ عثمان مصطفى الغزي، إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة، تحقيق: عبد اللطيف زكي أبو هاشم، مكتبة اليازجي، غزّة، 1999، ج2، ص105.

7 _ سكيك، المرجع السابق، ج6، ص 13.

8 _ أبو سعود، المقابلة السابقة.

9 _ البوادي، المقابلة السابقة.

10 _ أبو سعود، المقابلة السابقة.

11 _ سكيك، المرجع السابق، ج6، ص13.

12 _ المرجع السابق، ج6، ص13.

13 _ أبو سعود، المقابلة السابقة.

14 _ المقابلة السابقة.

15 _ البوادي، المقابلة السابقة.

16 _ البوادي، المقابلة السابقة.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *