Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

خان يونس العاديّة، العاديّة جدًّا

شبّان فلسطينيّون يسبحون، ساحل خان يونس | سائد خطيب

 

بينما كنت أتصفّح الإنترنت، صادفت فيديو يصوّر منطقة «دوّار السنية» الّتي تقع في منتصف مدينة خانيونس تمامًا. هي المنطقة الّتي كنت أقضي ثلثَي يومي فيها، ولي فيها معظم ذكرياتي… رأيت في الفيديو دمارًا شبه كلّيّ لكلّ شيء، لكلّ زاوية بكيت فيها، وضحكت وعشت فيها كلّ المشاعر دون استثناء. لم أتمالك دموعي وأنا أستذكر كلّ شيء كشريط سينمائيّ يمرّ أمام عيني، كانت دموعي ساخنة وهادئة. من هذا المنطلق، قرّرت أن أفضفض ما بصدري من صور لخان يونس الحيّة، العاديّة، من الصور الّتي تسكن الذاكرة سكنًا خاشعًا قبل الوأد، وقبل تجاهل السؤال عن ذنب الوأد؛ لأنّه يعزّ عليّ أن نُرى مدمّرين، فتُؤَرْشَف في ذاكرة العالم المرئيّة صورة الدمار فحسب، دون أن يفهم مَنْ يريد الفهم أنّ خان يونس مدينة عاديّة، وفي عمق عاديّتها يبزغ الاستثناء.

إنّها المدينة الّتي لا تمتلك ترف التراجع، لا تتوقّف عن المضيّ، وقد رفعت للعبور رايتها. مدينتي السافلة، الّتي أحبّ طينتها وأماكنها الخالية، لكنّي أكره صفتَي الألفة والتأهيل اللتين فيها. أبناؤها معروفون لبعضهم بعضًا، لا يتوقّفون عن توزيع التحيّات وتبادل السلامات، ما إن ترى اليوم أحدًا عند مفترق البحر، حتّى تجده في صباح الغد يمشي عند «دوّار أبو حميد» أو «شارع جلال». مدينة قليلة بكلّ كثرتها، وليس العكس. مدينة السكارى والمساطيل، ومدمني الروتانا والترامادول واللاريكا، والقتلة في طبعهم والمجرمين، ورجال الدين الأشدّ تطرّفًا. مدينة الشوارع الضيّقة، والجلوس الطويل على أبواب البيوت وعتباتها. وعلى سبيل المفارقة؛ خرج منها أعظم القدّيسين، وكبار الساسة، والشهداء، وأشهر رجال الأمن والشرطة والفنّانين.

اللافت أنّهم لا يخرجون إلّا خروجًا فجًّا وغير مألوف، ككلّ شيء هنا، وكلّ يوم وكلّ ليلة. خان يونس الّتي شدّت بأيديها شَعر الوقت؛ لا لتمسّده كما تفعل المدن الأمّهات الأخرى؛ بل لتخبره بفجاجتها المعتادة استعجالها على الوضوح؛ الّذي تفتقده بقيّة شقيقاتها الناعمات من المدن الصغيرة في سجن قطاع غزّة المركزيّ، والممتدّ من رفح جنوبًا حتّى بيت حانون شمالًا. يرتدي فيها بائع البقدونس بدلةً وربطة عنق، والملياردير جلّابيّة واسعة، ويجلس حول صحن الشكشوكة ليلتهمه بشراهة كالعامل العائد من «سوق الأربعاء» منهكًا وبفم جافّ جوعًا. المدينة الّتي عليك فور الوصول إليها أن تخلع عنك نفسك كاملة، وترتدي زيًّا موحَّدًا يرتديه كلّ المساطيل هنا، دون انتباه لمتسوّل فيها بكلّ قلّة حيلته سيثبّتك بإرادتك أن تدفع له لو شيكلًا واحدًا، ودون أن تسأل عن جنون الجور المنقوشة فوق جباه المارّة الفقراء، والفارغين جيوبًا وروحًا واتّجاهًا.

مدينة قليلة بكلّ كثرتها، وليس العكس. مدينة السكارى والمساطيل، ومدمني الروتانا والترامادول واللاريكا، والقتلة في طبعهم والمجرمين، ورجال الدين الأشدّ تطرّفًا.

قد تجد كبار المدينة أو وجهاءها يتقاضون في مشكلة عائليّة كبيرة على إحدى بسطات القهوة على الرصيف، وهذا يشير إلى معرفة أهل المدينة الضمنيّة بانكشافها، وتعرّيها، وأنّه لا مخبأ فيها؛ لأنّها منبسطة كراحة اليد، رغم أنّني على رهان بأنّها من أكثر المدن الّتي تمتلئ بالشوارع الفرعيّة والأزقّة الضيّقة في العالم. هناك شوارع لا يتجاوز عرضها نصف متر، وهي كثيرة، وهذه ازدواجيّة من المهمّ فهمها في هذا السياق. في ذات القهوة، تجد شاعرًا وموظّف سلطة، شيخًا وسائق تاكسي. الغريب، ورغم التناقض الآنف؛ أنّ كلّ هؤلاء يتشاركون الحديث بودّ وودّيّة، وتفضح حقيقة هذه الودّيّة خلواتهم. لن أسمّيها مدينة منافقة بل سأسمّيها نافقة، وراج بيعها؛ فالميم أسقطها غياب كبارها وصغارها وكهولها بكلّ حضورهم. آكلو الخبز الحافّ فيها بنفس مقدار الأثرياء، ويخنقك هذا التشابه العدديّ؛ لأنّ الثراء هنا يُخَبَّأ قدر المستطاع خشية الحسد أو معرفة معارف وأقارب الثريّ بثرائه، وقد أتقبّل ذلك من الأثرياء رغم مقتي لما هو حاصل؛ لأنّ الفقراء هنا – وخاصّة حين تبزغ شمس ثراء أحدهم – يحاولون إخفاء هذه الشمس، وإن تملّص وصار، فإنّهم ينهبونه ويستغلّونه ويصبح حديث الساعة، حتّى لو تطلّب هذا النهب مجهودًا مشاعريًّا من ذوي الثريّ، أو معارفه، أو الأصدقاء.

الفقراء هنا ’بناديق‘ في بعضهم بعضًا، علاقتهم منظّمة ببعضهم بعضًا، يعرفون ما يريدون من بعضهم بعضًا، وأكثر ما يربطهم معًا الحذر مع الاحتفاظ بمشاعر الحبّ والودّ، وتقديم أيّ خدمة بخلاف المال.

رغم الحديث عن التباينات الطبقيّة الحاصلة في هذه المدينة، الّتي تدركها ثُلّة مغتربين في هذا المكان، إلّا أنّ هذه التباينات يُسقطها هدوء المدينة العارم والطويل والممتدّ والمزدحم والمغشوش، الّذي قد ينفجر في أيّ ثانية من خلال مشكلة عشائريّة يموت فيها شخص أو اثنان، يُصاب ربّما وقد يتحوّل إلى معاق، وغالبًا تكون المشكلة بين عشيرتين جارتين أو قريبتين أو نسيبتين. وقد يقتل أبناء عشيرة واحدة بعضهم بعضًا، والأكثر غرابة قد يكون القاتل والمقتول رفاق درب في المقاومة والنضال؛ كون هذه البلاد كان قدرها أن تبقى محتلّة، فالسلاح متاح، والقتل فيها أعمى وسريع ومباح. والضحك كذلك، والحبّ والجنس والإدمان ونعمة التساهيل، والعيش على فيض الكريم كما كانت جدّتي تخبرني.

أراهن مرّة أخرى؛ كلّ مَنْ دخل أو زار خان يونس على أنّه ارتبط بها ارتباطًا مؤثّرًا وعميقًا، أو على الأقلّ بالغ الحساسيّة إلى جانب الفهم الخاطئ مبدئيًّا؛ فلها سحرها الأخّاذ، وعالمها الّذي يؤسّس فيك مجون الارتباط والتأثّر وفُحْشَهما. إن لم تصدّقوني فاسألوا جان بول سارتر (1905 – 1980) الّذي زار خان يونس في عام 1964، وقد أخطأ القراءة والتقدير لهذه المدينة على نحو فادح، كما خمّنتُ فور معرفتي بذلك قبل سبع سنوات؛ فقد رأى سارتر في الذهب الّذي يملأ أيادي البائعات والأمّهات في «سوق الأربعاء» مؤشّرًا على وضعهنّ الاقتصاديّ. رغم ذلك، أثّرت خان يونس بذاكرة سارتر الخامّ، و«وجهًا لوجه» (2005) لهازل رولي، عن مذكّرات حياة الثنائيّ سارتر وبوفوار، خير شاهد على هذا التأثير الّذي برز جليًّا في الحوارات المقتضبة بين الاثنين في الغرف المغلقة. في 1965، بعدها بعام، زارها صلاح عبد الصبور وأحمد رامي وأحمد حجازي، وكان رامي يقول لعبد الصبور: “تريد أن تشحن بطاريّتك يا صلاح؟ اذهب إلى المخيّمات!”.

في 1965 (…) زارها صلاح عبد الصبور وأحمد رامي وأحمد حجازي، وكان رامي يقول لعبد الصبور: “تريد أن تشحن بطاريّتك يا صلاح؟ اذهب إلى المخيّمات!”.

هناك العديد من النماذج والصور والأحداث الّتي تشكّل شهادة على فرادة خان يونس، واختلاف شكلها عن بقيّة المدن؛ فهي الوحي والجفاف، وصورة الانتهاز الكبير للثوابت، وثبات المتغيّرات، وما ستبكي لأجله المدن على حين معرفته. خان يونس البحر، دهشة الجالسين على عتبات المنازل حين يمرّ غريب من «شارع العيادة» أو «شارع أبو ليلة» أو أيّ شارع، لسبب هو سلسلة الوجوه الأليفة والمعروفة سلفًا؛ لأنّك ستعرف تلقائيًّا أنّك غريب تترصّدك العيون، وتلاحقك أسئلة العجائز لأحفادهم عمَّنْ تكون أيّها العابر الغريب المتطفّل، الّذي كان قرار دخوله ارتجالًا متهوّرًا، وستعرف ذلك من حفلة انحناءة الرؤوس نحو بعضها بعضًا الّتي تتزامن مع خطوتك الأولى. خان يونس الحارات الّتي تجد في كلّ خمسة أمتار فيها بسطة دخان، تعتليها شمسيّة كبيرة كالّتي ترى مثلها عند كراج رفح والضهرة وأبواب المساجد؛ فوق العربات الّتي تبيع الخضار بباب «المسجد الكبير» و«جامع بلال والسنية». يجلس البائع عند البسطة على كرسيّ بلاستيكيّ قديم، وحوله على الرصيف شباب الحارة يتحدّثون عن «شنطة العمادي»، وعن مباراة الأمس، ومنهم مَنْ يحاول إقناعه باستدانة سيجارة (لحدّ م يقبض الـ 20 شيكل المأجّلات من أسبوع من الصنايعي)، وآخر يسمع الأغاني بصوت عالٍ، وما بدّلوا تبديلًا.

خان يونس الممتدّة من القلب إلى القلب، ومن السكّين إلى السكّين، ومن المؤخّرة إلى المؤخّرة. الجرح الّذي لم يَحْتَجْ إلى شاعر ليرسمه، رسمته الأبديّة على لوحة أسرار بنيها الّذين يسعون في الأرض، ويأكلون من خبزها وخضارها وفولها وفلافلها، ويشربون من مائها وكلُبْها (علبة كولا ضخمة ثمنها شيكل)، ويحشّشون من حشيشها.

المواراة للوجوه ليلًا خشية المعرفة من الأصدقاء والناس الّذين قد يُصادَفون خلال السير لضرورة السطلان، الترنّح ومناداة الجميع باسم واحد للتمويه والمواربة. ولمَنْ يلتفت؛ قد يجد مبالغة… لكنّ الحقيقة لا؛ فبلاط الشارع في هذه المدينة لا يسهو عن الفضول، وليس السكّان بكلّ أطيافهم فحسب. خان يونس الرواية الكبيرة والضخمة والمتعدّدة الأوجه والأقنعة، المحشوّة بالمعاتيه والهبلان وباعة العهود ومشتريها.

السخرية الغريبة الّتي تأخذ شكلًا مغايرًا لشكل السخرية الحقيقيّ الموضوعيّ والمعهود؛ فالسخرية هنا تتخلّى عن جوهرها، وتتحوّل إلى سمة من سمات السكّان الوجوديّة والتركيبيّة، بمسوّغات مقنعة مرتبطة بطبيعة الناس والمكان، الشرف كحلمٍ وحيلة لمَنْ هو مسلوب القوّة والإرادة والمال، ويوم الحصول على المال يُفْقَد الشرف والتشريف وشريفة… المال وفعايله! وعلى التوازي؛ تجد أوطانًا من العفّة؛ العفّة الضخمة الّتي لا يضاهيها ثمن، ولا تشبهها عفّة، وذاك القليل البائد لكثير جريء. شرقها قزم، وغربها أزرق قليل.

ما يجعلني أضحك بكثرة هذه اللحظة، تذكُّري لشكل التديّن في هذه البقعة، وهذه سأتركها لمَنْ يعرف المدينة كواجب الغموض بعد الفضيحة، وإجلالًا لأبي؛ ابن هذه المدينة الّذي يعتبر قلّة الدين سببًا للكوارث الحاصلة. والمدهش أنّ الدين موجود هنا بكثرة، والدَيْن كذلك، والتين والجوّافة… و«شارع روني» بيشهد.

خان يونس الّتي عادت من كلّ المعارك خاسرة، وأقنعتنا نحن الأبناء بأنّ خسارة المعارك مكسب، تلك خرافتنا الّتي تأسرنا ونحبّ كما يحبّ مصلوب جلّاده…

خان يونس الّتي عادت من كلّ المعارك خاسرة، وأقنعتنا نحن الأبناء بأنّ خسارة المعارك مكسب، تلك خرافتنا الّتي تأسرنا ونحبّ كما يحبّ مصلوب جلّاده؛ الّتي ما إن ترشّ حزنها حتّى نستنشقه برضًا عارم، وقلب رغم الرضا ساخط ومنقسم ومرتاب. أشربتنا القلق كأنّه ترياق، والحبّ كأنّه رصاص مصبوب. خان يونس الّتي قتلت الآباء بصمت؛ خشية استيقاظ الأبناء، ودفنتهم… ثمّ أخذت دور الجنّة للدومري الّذي صار رجل أمن، وجهنّم لصعاليك السوق الّذين يحتّون الحصى عن جُنوبهم المتعفّرة. هي نهاية كلّ بداية، وليس العكس. هي فرح الصغار المغلَّظ، وحزن الكبار والأجداد الّذي لا يتوقّف عن التجدّد. هي الحسرة وخذلان المواعيد، وآخِر ما تلمحه حناجر العقل لترصده وتقوله. مدينة القبلات المسروقة في الأزقّة الفرعيّة الضيّقة؛ لأنّ اتّساعًا ما غاب عن بصر المدينة العمياء، وظلّ إلى الآن غائبًا.

في نهاية المطاف، أريد أن أقول بأنّه لكي تفهم السرديّة الحقيقيّة لغزّة، العمليّة، إن كنّا نتحدّث بتجرّد، عليك أن تفصل الحالة المقاوِمة عن كلّيّة غزّة المحضة، من حيث هي سكّان وأماكن وأحداث. خلال ذلك؛ ستفهم أنّ غزّة ليست إلّا مدينة ساحليّة كدمياط أو اللاذقيّة أو غيرهما من المدن الّتي تلهج بالمضامين المعيشيّة ذات الإيقاع العاديّ… العاديّ جدًّا إلى جانب الحالة الفنّيّة الّتي يرسمها البحر في مواقيتها الزمكانيّة. أما وقد وضعتْها الظروف تحت وصاية الصراع وضعًا قسريًّا، فإنّ علاقة غزّة بالصراع أيضًا لا تنفصل عن علاقتها بالحياة؛ فإسبرطة وطيبة والأهواز وحتّى درعا، كلّ هذه دول على هيئة مدن بالمعنى التاريخيّ أوّلًا والجغرافيّ ثانيًا، أمّا غزّة، فبكلّ ضآلتها على حين هذين المعنيين، هي بالفعل استثناء.

لكنّ واقعًا يفرض لغته على المعادلة، ولو كان ذلك على حساب سرديّة “البحر وراءكم والعدوّ أمامكم” التاريخيّة الواضحة، الّتي لا تغيب إن حُسِبَت كحساب من حسابات المعركة الملحميّة القائمة الآن في قطاع غزّة. وما لا تعيه الجماهير المولعة بهذه الملحميّة الخالصة، والخاصّة بصورة غزّة المصدّرة لهم، هو أنّ غزّة بأفرادها وجماعاتها لا تبحث عن الأسطورة الملاحقة لها كهاجس، وهذا تراه في كلّ ما يجسّد وعي غزّة بموقعيها الوجوديّ والمعيشيّ الخالصين من الإعراب، ولو مررت عليها في يوم عاديّ لوجدت في كلّ متر قصّة، أو سيرة، أو صورة من الصور الّتي تتوازى مع الصور الحيّة للمدينة العاديّة جدًّا؛ العاديّة جدًّا؛ العاديّة جدًّا. فلا أساس ملحميًّا لها على وجه الحاضر، سوى الأساس التاريخيّ المنهك من التقادم وإساءة الاستعمال، والإقحام في الراهن بمجمل صياغاته، الموازي لفكرة حرب الإبادة مقابل التأثير في حقيقة وعي العالم القبيح وغير الرحيم، أو فكرة الجنين المعجزة الّذي يشرح الجدول التوضيحيّ لسيرة العالم الأخلاقيّة؛ فدعوا غزّة تكمل عاديّتها.

 


 

هاشم شلولة

 

 

كاتب وشاعر فلسطينيّ يقيم في قطاع غزّة. له ثلاث مجموعات شعريّة: «برقيّات لآلة فاكس معطّلة» (دار الكلمة)، «سيأكل الذئب مَنْ ينتبه» (دار رواشن، 2021)، و«ماذا لو عرفوا أنّنا غرباء» (دار رواشن).

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *