Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

سلافوي جيجك… تتبّع الفوضى

سلافوي جيجك | ساهان نوهوغلو، Getty

 

تحت سماء سالمة

“الوضع ممتاز ما دامت فوضى كثيرة تسود تحت السماء”، يعود هذا القول إلى ماو تسي تونغ، وليس لسلافوي جيجك، غير أنّ هذا الأخير اقتبسه في مقدّمة كتابه «فلسفة الفوضى» الصادر بالعربيّة عن «دار الساقي» عام 2022؛ فالّذي كان يعنيه ماو تسي تونغ في قوله هو: عندما يتفكّك النظام الاجتماعيّ القائم، تتيح الفوضى الّتي تلي ذلك للقوى الثوريّة فرصة سانحة للتحرّك بحزم، والاستيلاء على السلطة السياسيّة.

يتساءل الفيلسوف جيجك إن كان لا يزال وجود الفوضى يتيح ما كان متاحًا في زمن ماو؛ أي التحرّك ثوريًّا والاستيلاء على السلطة؛ فالفوضى اليوم أكثر وأشدّ وقعًا على الواقع البشريّ، سواء على شكل جوائح معدية كانت، مثل «الكورونا» في وقت كتابة جيجك لكتابه، أو الاحتباس الحراريّ، أو احتجاجات شعبيّة ومنازعات اجتماعيّة في جميع أنحاء العالم، ومعها بوادر حرب باردة جديدة.

مع ذلك، يرى صاحب «فلسفة الفوضى» أنّ فوضى زمن ماو كانت تجري تحت سماء لا تزال سالمة، وتُنَظَّم تحتها الفوضى الاجتماعيّة بتكتّم. أمّا اليوم فعلينا التحدّث عن السماء نفسها بوصفها كائنًا في حالة فوضى واضطراب، يقول جيجك؛ بمعنى أنّنا نحن البشر كنّا نعيش تحت سماء مقسومة بين عالمين، طوال فترة الحرب الباردة، ما بعد الحرب العالميّة الثانية، أمّا اليوم فانقسامات السماء باتت ترتسم باطّراد داخل كلّ بلد بعينه؛ ففي الولايات المتّحدة صراع واستقطاب بين يمين صاعد متطرّف ومؤسّسة ليبراليّة متسلّطة، وكذلك المملكة المتّحدة الّتي تشهد انقسامًا عميقًا، تجلّى حديثًا بين مؤيّدي الانفصال عن الاتّحاد الأوروبّيّ ومناهضيه. وينسحب ذلك على ما يجري في إسرائيل هذه الأيّام، حيث الشرخ الّذي بات يطال المجتمع ونظام الدولة معًا.

هذه الفوضى الّتي عُنْوِن الكتاب بها، يتتبّعها جيجك في مواقع ومشاهد مختلفة من العالم، فالكتاب عبارة عن سلسلة مقالات منفصلة، لكنّها متّصلة بفلسفة الفوضى، والسؤال فيها الّذي جاء عنوانًا فرعيًّا للكتاب: هل ينقذ الدمار البشريّة؟

 

قواعد اللعبة

بدءًا بالمملكة العربيّة السعوديّة، الّتي كان قصف الحوثيّين اليمنيّين في أيلول (سبتمبر) 2019 لمنشآت معالجة النفط الخامّ التابعة لشركة «أرامكو» (Aramco)، يعني تحوّلًا في مسار المملكة والمنطقة معًا ومصيرهما، ثمّ وأْد إسرائيل لمشروع حلّ الدولتين عبر ضمّها لمساحات من أراضي الضفّة الغربيّة من خلال «خطّة الضمّ»، وتحويل هذه الأخيرة إلى قطع من ’البانتوستانات‘ الخاضعة للرقابة الأمنيّة المشدّدة، كانت النتيجة في رأي جيجك نشأة ’محور شرّ‘ جديد في الشرق الأوسط، يضمّ السعوديّة وإسرائيل ومصر والإمارات العربيّة؛ ممّا يعني تغيّر قواعد اللعبة هناك.

ما بين السعوديّة والصين، فإنّ ما يستوجب الملاحظة عند جيجك هو التمييز بين صراعات كانت تُعَدّ جزءًا من اللعبة، وبين تغيّرات اللعبة الحقيقيّة…


 

في تلك الأيّام نفسها اندلعت، وتحديدًا في الثامن من أيلول (سبتمبر) 2019، احتجاجات هونغ كونغ في المناطق الفقيرة ضدّ الطبقة المتنفّذة في ظلّ السيطرة الصينيّة، وقد انطلق المحتجّون نحو القنصليّة الأمريكيّة. وممّا ذُكِر أنّ لافتة حُمِلت في مسيرة الاحتجاج كُتِب عليها بالإنجليزيّة: “من فضلك، أيّها الرئيس ترامب، حرّر هونغ كونغ”. ثمّ تلك الاحتجاجات في الصين نفسها الّتي يخوضها بعض الطلبة، على إثر تقلّص فضاء النقاش في عهد الزعيم الصينيّ شي جين بينغ (Xi Jinping)، بالتعاون مع العمّال الّذين يعانون من الاستغلال الشديد في المصانع المحيطة ببكّين. يرى جيجك أنّ ذلك يمثّل تحدّيًا حقيقيًّا للنظام، في صراع بين خطّ متشدّد جديد يقوده الزعيم الصينيّ شي جين، وبين الليبراليّين المؤيّدين للرأسماليّة؛ وهو ما  يعبّر عن توتّر سائد بين نسختين من التطوّر الرأسماليّ الجامح: الشموليّ والليبراليّ.

وما بين السعوديّة والصين، فإنّ ما يستوجب الملاحظة عند جيجك هو التمييز بين صراعات كانت تُعَدّ جزءًا من اللعبة، وبين تغيّرات اللعبة الحقيقيّة، الّتي هي إمّا منعطفات تنذر بالأسوأ تحت قناع استمراريّة الحالة الطبيعيّة للأمور، وإمّا بشائر أمل في نشوء شيء جديد حقًّا.

وهكذا، يطوف جيجك في مقالات كتابه على مجموعة من الملفّات التاريخيّة والقضايا الراهنة، منها الأكراد الموزَّعون بين أربع دول في الشرق الأوسط، الّذين يرى جيجك بهم الضحيّة التاريخيّة المثاليّة للألعاب الجيوسياسيّة الاستعماريّة الجارية في المنطقة، ثمّ إلى المكسيك والتضامن الخفيّ بين الوحشيّة الذكوريّة المستحكمة وأجهزة الدولة لتنظيم القمع والعنف فيها. إضافة إلى جوليان أسانج (Julian Assange) وقضيّة سجنه في بريطانيا، وامتحان الصحافة والرأي العامّ في قضيّته الّتي يراها جيجك أنّها قضيّة تخصّ الجميع لا أسانج وحده. ومن ثَمّ إلى إيران والاحتجاجات الشعبيّة فيها، واغتيال قاسم سليماني الّذي اعتبره جيجك اغتيالًا صبّ في صالحَين: صالح مغتاليه بالتخلّص منه، والإيرانيّين أنفسهم؛ حيث أفاد اغتياله في التعبئة الشعبيّة الإيرانيّة، والطمس المؤقّت للصراعات الداخليّة في البلاد. هذا علاوة على القلاقل والتحدّيات الّتي تشهدها دول مثل تشيلي وفنزويلا وغيرهما.

 

الجلوس على مقعدين

“إن اخترت الجلوس على مقعدين في الآن عينه، فقد تقع كما يقال في الفراغ الّذي يفصل بينهما…”، ينطبق هذا القول بالنسبة إلى جيجك على اليسار العالميّ عمومًا، متّخذًا من «حزب العمّال» في المملكة المتّحدة نموذجًا؛ فقد خسر الحزب انتخابات 2019 في بريطانيا، ورغم تعدّد أسباب خسارته إلّا أنّ إصرار اليسار على الجلوس على مقعدين هو وراء ما حلّ به تحديدًا في ما يتعلّق بسؤال ’الخروج من الاتّحاد الأوروبّيّ‘، وهي القضيّة المركزيّة الّتي دارت عليها الانتخابات. أوّل ما يلفت الانتباه في عدم التماثل في موقف الحزبين الكبيرين، اللذين تنافسا في تلك الانتخابات، حول قضيّة الخروج من الاتّحاد، أنّ «حزب المحافظون» (اليمين) قد لازمتهم في حملتهم الانتخابيّة مقولة “أنجزوا الخروج من الاتّحاد الأوروبّيّ”، في حين كان موقف «حزب العمّال» (اليسار) أسوأ ما يمكن بالنسبة إلى جيجك؛ فقد انقسم ناخبوه انقسامًا شبه متساوٍ بين مَنْ يريدون البقاء مع الاتّحاد، ومَنْ يريدون مغادرته؛ فخشي الحزب من اختبار أحد الموقفين؛ كي لا يخسر الناخبون المعارضون هذا الخيار.

 

«فلسفة الفوضى» (2022)

 

ثمّة أسباب وجيهة للخروج من الاتّحاد والبقاء فيه، حسب صاحب «فلسفة الفوضى»، لكنّ «العمّال» تجنّب نقاشًا مفتوحًا بشأنه، متستّرًا على تردّده بصيغة كارثيّة: “سنترك الخيار للناس!”، وهذه صيغة كارثيّة بالنسبة إلى جيجك؛ لأنّ الناس لا يريدون أن يفرض السياسيّون عليهم قرارات صعبة؛ فهم يتوقّعون من الزعماء السياسيّين أن يبيّنوا لهم مسارًا واضحًا، وأن يخبروهم بالخيار الصحيح، وهذا ما فعله «المحافظون».

يبدو الأمر بالنسبة إلى جيجك كأنّ على اليسار الأوروبّيّ أن يموت مرّتين: أوّلًا يسارًا شيوعيًّا ’شموليًّا‘، ثمّ يسارًا ديمقراطيًّا معتدلًا راح يتراجع تدريجيًّا منذ تسعينات القرن الماضي. لا يعني تأييد «العمّال» في المملكة المتّحدة، و«الاشتراكيّين الديمقراطيّين» في الولايات المتّحدة تأييدًا تامًّا، حلًّا للمشكلات والتحدّيات الّتي تواجه مجتمعهما، وحتّى العالم كلّه؛ إذ يدعم جيجك توماس بيكيتي (Thomas Piketty) في كتابه «رأس المال والأيديولوجيا» (2019)، الّذي يقترح اتّخاذ مجموعة من الإجراءات الجذريّة، عبر نموذج متضامن يفرض حلولًا على الصعيد العالميّ، خارج حدود الدول القوميّة.

 ومع ذلك، يذكّر جيجك بأنّ في هذا النموذج المقترح لإعادة تنظيم عالميّة لمجتمعاتنا أمران مؤكّدان: أنّه لن تفعله نسخة جديدة ما من حزب شيوعيّ لينينيّ، ولن يحدث أيضًا ضمن جزء من الديمقراطيّة البرلمانيّة.

ما يعني أنّ التحدّيات العالميّة باتت تتطلّب حلولًا لا علاقة لها بأيّ حزب سياسيّ يحصل على أصوات أكثر، ويسنّ تدابير ديمقراطيّة اجتماعيّة. لذا؛ يعتقد جيجك أنّه إذا كان سينتظر العالم اللحظة المناسبة لإحداث تغيير جذريّ، فلن تأتي تلك اللحظة إطلاقًا؛ إذ على المجتمعات البدء من حيث هي، وبلا أوهام؛ فما يجب إدراكه تمامًا، يقول جيجك، أنّ المستقبل سيطالب مجتمعاته بأكثر كثيرًا من مجرّد الألاعيب الانتحاريّة، والإجراءات الديمقراطيّة الاجتماعيّة. إنّ ملامح أزمة الديمقراطيّة الّتي تجلّت في وصول دونالد ترامب مثلًا إلى سدّة الحكم في أمريكا، لا يعني انتخاب بايدن إنقاذًا لها.

 

معاداة الساميّة

خصّص جيجك لمناهضة اللاساميّة مقالًا خاصًّا في كتابه، والّتي بات شكلها يعني حظر نقد إسرائيل والصهيونيّة؛ إذ يُتَّهَم كلّ مَنْ ينتقد سياسات إسرائيل بمعاداة الساميّة في أمريكا وأوروبّا عمومًا. ما يقلق جيجك في هذا السياق هو ذلك الجمع، الّذي يقوم به المحافظون المسيحيّون في الولايات المتّحدة بين موقف مؤيّد للرأسماليّة وبين ولعٍ مكتشَف حديثًا بإسرائيل.

الناس لا يريدون أن يفرض السياسيّون عليهم قرارات صعبة؛ فهم يتوقّعون من الزعماء السياسيّين أن يبيّنوا لهم مسارًا واضحًا، وأن يخبروهم بالخيار الصحيح…


 

وبالتالي يسأل: كيف في مستطاع هؤلاء الأصوليّين المسيحيّين، الّذين هم بحكم الطبيعة معادون للساميّة، أن يؤيّدوا بحماسة حاليًّا السياسة الصهيونيّة لدولة إسرائيل؟ هناك طريقة واحدة للإجابة عن هذه الأحجيّة، يقول جيجك: ليس الأمر أنّ الأصوليّين المسيحيّين قد تغيّروا، بل إنّ الصهيونيّة نفسها، في كراهيّتها اليهود الّذين لا يتماهون كلّيًّا مع سياسة دولة إسرائيل، أصبحت على نحو مفارق معادية للساميّة.

 

أخيرًا، شيوعيّة زمن الحرب

لطالما نبّه سلافوي جيجك إلى أنّ التحدّيات الّتي تهدّد مصير البشريّة جمعاء لم يَعُدْ مجديًا التفكير في حلّها ضمن إطار الرأسماليّة والإجراءات الديمقراطيّة، وفي المقابل، ليس كلّ ما يمكن أن يتحرّك ويثير الاضطرابات يعني أن يكون أحمر (يسارًا)، ومع ذلك لا يزال صاحب كتاب الفوضى متشبّثًا باللعنة الّتي تُسَمّى ’شيوعيّة‘، مع إدراكه أنّ مشروع شيوعيّة القرن العشرين قد أخفق؛ معلنًا ولادة أشكال جديدة من ’الإرهاب الإجراميّ‘.

بات ذلك يشي بكارثة عالميّة، وثمّة متعة خاصّة بالعيش في نهاية الزمان، وبانتظار كارثة ما، وهذه متعتنا جميعًا على هذا الكوكب، وليست متعة صاحب الكتاب وحده، غير أنّ المفارقة بالنسبة إليه، تكمن في أنّنا، نتيجة التركيز تحديدًا على الكارثة المقبلة؛ نتجنّب فعليًّا مواجهتها.

بالتالي، لا يتبنّى جيجك الشيوعيّة بوصفها حلًّا لمصائب العالم، بل بوصفها لا تزال التسمية الفضلى الّتي تمكّن المجتمعات من القبض على المشكلات الّتي تواجهها اليوم، وتصوُّر مخرج منها. بلى، يقول سلافوي جيجك متفائلًا: الشيوعيّة المقبلة، ستكون شيوعيّة حرب أو لن تكون ثمّة أيّ شيوعيّة.

 


 

علي حبيب الله

 

 

باحث في العلوم الاجتماعيّة، حاصل على ماجستير فلسفة التاريخ من «الجامعة الأردنيّة»، وماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من «جامعة بير زيت». يعمل في مجال الاستكمال التربويّ في القدس.

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *