Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

’طوفان الأقصى‘ استعاريًّا: العنف الإلهيّ والنجاة

القبّة الحديديّة تعرض رشقة صاروخيّة من قطاع غزّة، 08/10/2023 | إياد البابا.

 

«طوفان الأقصى» التسمية الّتي أطلقتها حركة «حماس» على هجمة السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) على منطقة المعروفة إسرائيليًّا بـ ’غلاف غزّة‘، وما تلاها من مواجهات عسكريّة. يتعدّى الأمر مجرّد التسمية، حيث يفيد مجال تصميم الرأي العامّ وإقناع الجماهير في وقت الحروب؛ ولهذا فإنّ لتسميات الحملات العسكريّة أهمّيّة كبيرة. على سبيل المثال، أثناء الحملة العسكريّة الأمريكيّة لغزو العراق في عام 2003، كان ثمّة جدل كبير على آثار تسميتها «درع الصحراء» (Desert Shield)، وغُيِّر اسم الحملة إلى «عاصفة الصحراء» (Desert Storm). ادّعى الباحثون أنّ إطلاق وصف ’عاصفة‘ على حملة عسكريّة بمنزلة وصف مجازيّ واستعاريّ يصوّر الحملة العسكريّة على أنّها ظاهرة طبيعيّة عنيفة، فلا أحد يسيطر على العاصفة، وضحاياها ضحايا الطبيعة ولا مفرّ من ذلك. استنتج الباحث ميو (Myo) أنّ هذه التسمية جرّت وراءها خطابًا إعلاميًّا كاملًا يستمدّ مصطلحاته ومعجمه من مجال الطبيعة والكوارث الطبيعيّة، وبذلك فإنّها أدّت إلى خفض اهتمام الجماهير الأمريكيّة بضحايا غزو العراق، الّذي أدّى إلى قتل أكثر من مليون إنسان، فضلًا على إبادة المدنيّة العراقيّة ونسبة كبيرة من إرثها الحضاريّ.

انطلاقًا من هذا المنظور؛ قد نثير التساؤل عن المعاني والتأثيرات النفسيّة والمفاهيميّة لوصف السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) بـ ’طوفان‘. ما الطوفان؟ وما المعاني والدلالات الّتي يستحضرها هذا اللفظ؟ ما وجهات الشبه بين قصّة الطوفان في عدد من الكتب الدينيّة وبين ما يدور في فلسطين؟ مَنْ مسبّب الطوفان؟ ومَنْ ضحاياه؟ أهي حالة عنفيّة أم أنّها ظاهرة طبيعيّة؟ وما العبرة الكبيرة من هذه القصّة؟

 

الصالح والطالح

توجد مرحلتان لفهم دلالات ’الطوفان‘؛ الأولى رصد معاني اللفظ في المعاجم العربيّة، والثانية ربطها بالقصّة الأهمّ في هذا المبحث، وهي قصّة طوفان النبيّ نوح. ضمن المرحلة الأولى رصدًا للمعاني في المعاجم؛ ’الطوفان‘ لغة ما كان كثيرًا أو عظيمًا من الأشياء أو الحوادث، بحيث يطغى على غيره، وهو الفيضان العظيم كالّذي أهلك قوم نوح كما يرد في «المعجم الوسيط». وفي معجم «لسان العرب» جاء أنّ الطوفان من كلّ شيء ما كان كثيرًا محيطًا مطيفًا بالجماعة كلّها، مثل الغرق الّذي يشتمل على المدن الكثيرة والقتل الذريع والموت الجارف.

الطوفان لغة ما كان كثيرًا أو عظيمًا من الأشياء أو الحوادث، بحيث يطغى على غيره، وهو الفيضان العظيم كالّذي أهلك قوم نوح كما يرد في «المعجم الوسيط»….

من هنا، يمكن الإشارة إلى عاملَين دلاليّين أساسيّين للفظ ’الطوفان‘، الأوّل ميزة العظمة من الأشياء، ما يطغى على غيره ويغمره. وهنا يمكن التعمّق أكثر في تفاصيل هذه الميزة بما تنطبق فيه على السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، انطلاقًا من العامل الزمنيّ الغامر في هذا الحدث. والثاني السياق الّذي سبقه، فعمليّة الغمر عمليّة تدريجيّة وليست فجائيّة، يكون هناك ارتفاع تدريجيّ في مستوى الماء حتّى يغمر ما حوله ويفوقه. وهناك العامل المقارَن في ميزة الغمر؛ أي أنّ ثمّة ما هو غامر وما هو مغمور.

في سياق السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، قد يكون الغامر فعل المقاومة أو العنف، في حين أنّ المغمور قناع الحياة الطبيعيّة في إسرائيل أو في محيطها؛ فمن ميزات ’الطوفان‘ أنّه يغمر الصالح والطالح، وأنّه لا يميّز بين الأمور؛ لذا قد يكون ما غُمِر في ’الطوفان‘ استمراريّة الحياة المدنيّة الطبيعيّة الإسرائيليّة الّتي تجاهلت الفلسطينيّين تمامًا منذ «انتفاضة القدس والأقصى» (2000 – 2005)، أضف إلى ذلك الصمت العالميّ تجاه القضيّة الفلسطينيّة، وعلى رأسه عمليّات التطبيع والسلام مع دول عربيّة إفريقيّة وخليجيّة، في ما سُمِّي «اتّفاقيّات أبراهام».

العامل الدلاليّ الأساسيّ الثاني في لفظ ’الطوفان‘، عامل التدمير وتصفير الحياة على بكرة أبيها، ويشمل هدم المدن وتصفية سكّانها. تجدر الإشارة إلى أنّه لا غاية أو لا إستراتيجيّة عمل واضحة من وراء هذا التصفير، ويمكن قراءته على أنّه جزء من طبيعة الحياة على كوكب الأرض، أو أنّه قدر من عند الله، وأنّه لا بدّ من وقوعه تمامًا مثل الموت، باعتبار الحياة أهمّ سبب للموت.

 

أوجه العنف

في هذا السياق يمكن استذكار فالتر بنيامين، في مادّته «نقد العنف» (1921)، الّتي قدّم فيها تعريفًا للعنف وفق علاقته بالقانون وبالعدل، وصنّف أنواعه إلى العنف الصانع للقانون، والعنف المحافظ على القانون، والعنف المدمّر للقانون.

العنف الصانع للقانون عند بنيامين ذلك الّذي يخلق الدول أو النظم السياسيّة الجديدة، مثل الحروب أو الثورات، والعنف المحافظ على القانون ذلك الّذي تحتكره الدولة أو نظام الحكم، مثلًا في شرعيّة استخدام القوّة على يد الشرطة أو القضاء. في ما العنف المدمّر للقانون ذلك الّذي يعمل خارج إطار القانون ويحافظ عليه؛ ومن أجل توضيح هذا النوع من العنف علينا أن نفهم تصنيفًا آخر يضعه بنيامين، وهو التصنيف الّذي يتطرّق إلى الغاية وإلى الوسيلة في ممارسة العنف.

يقول بنيامين إنّ العنف الصانع للقانون والعنف المحافظ على القانون هما نوعا عنف يُعَرَّفان وفق الغاية، وهي خلق النظام والحفاظ عليه. ولكن، في الكثير من الحالات، فإنّ هذا العنف الّذي تمارسه وكالات القانون عنف مبالغ فيه، يخرج عن التعريف الأوّليّ للقانون؛ ممّا يجعله متناقضًا وغير شرعيّ مع الغاية النهائيّة وهي حكم القانون.

لا هروب من الطوفان؛ فإنّه حدث غامر لكلّ بقاع الأرض، والطريق الوحيدة للنجاة هي التحصّن في فلك ما معزول، مادّيًّا كان أو رمزًا لتحصّن أخلاقيّ أو عباداتيّ ما…

من هنا؛ يدّعي بنيامين أنّ هناك عنفًا من صنف آخر، هو العنف الّذي لا غاية له، والّذي لا يخدم أيّ إستراتيجيّة؛ أي أنّ الوسيلة بهذه الحالة هي نفسها الغاية. عنف على شكل تعبير عفويّ ونقيّ، لا يُعْنى بسؤال الشرعيّة، وهو ليس جزءًا من أيّ خطّة. هذا هو العنف المدمّر للقانون الّذي يصفه بنيامين كالعنف الإلهيّ، الّذي يستوحيه من القصص الواصفة للغضب الإلهيّ في الكتب المقدّسة. وكذلك فإنّ بنيامين يربط بين العنف الإلهيّ ومصطلحات مثل قدسيّة الحياة والعدل الإلهيّ فوق البشريّ. مثال على هذا العنف الإضراب الشامل لطبقة البروليتاريا، الّذي يتحدّى فكرة الدولة جوهريًّا، وقد يُقْرَأ على يد القانون بأنّه عمل عنيف.

 

مَنْ ينجو؟ 

المرحلة الثانية في تتبّع دلالات ’الطوفان‘ تكمن في تأمّل قصّة الطوفان في التراث الدينيّ. يمكن تلخيص القصّة في الآية 14 من «سورة العنكبوت»: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}. في هذه الآية يظهر سياق الطوفان، وهو الفترة الطويلة من الظلم، كما يظهر أيضًا في القصّة كما وردت في الكتاب المقدّس: “وفسدت الأرض أمام الله، وامتلأت الأرض ظلمًا. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت، إذ كان كلّ بشر قد أفسد طريقه على الأرض. فقال الله لنوح: نهاية كلّ بشر قد أتت أمامي، لأنّ الأرض امتلأت ظلمًا منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكًا من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخل ومن خارج بالقار” (سفر التكوين، إصحاح 6: 11-14). وفي صياغات أخرى يكون تبديل لفظ ’ظُلْم‘ بـ ’عنف‘ (Violence).

ومثلما ظهر في الآية القرآنيّة في «سورة العنكبوت»، فإنّ الظلم المستمرّ والإفساد في الأرض هو ما استدعى الطوفان وإهلاك البشر مع الأرض؛ أي موتًا جارفًا محيطًا، ما يتلاءم مع مصطلح العنف الإلهيّ المذكور آنفًا. لذا؛ في تسمية هجمة السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) بــ «طوفان الأقصى»، هناك ما يستحضر وجود سياق عنفيّ ظالم، وإفساد متراكم ومستمرّ على مرّ فترة زمنيّة طويلة. في مركز هذا الوصف يقع المسجد الأقصى في القدس العاصمة، الّذي مرّ – وما زال يمرّ – بانتهاكات الحرمة والتعدّي المتصاعد من قِبَل المؤسّسة الإسرائيليّة. هذا السياق كافٍ بالنسبة إلى مطلقي التسمية؛ لتُهْلَك الأرض وما فيها بفعل عظيم ومحيط وغامر للحياة.

لكن لا يمكن التوقّف هنا؛ ففي قصّة نوح يوجد عامل إضافيّ مهمّ جدًّا، وهو نجاة نوح وبعض مَنْ اتّبعه بطريقة الفلك أو السفينة، الّتي طفت واصْطُفِيَت من بين الكائنات. كما ورد في الآية 119 من «سورة الشعراء»: {فأنجيناه ومَنْ معه في الفلك المشحون}، وكذلك ما ذُكِر سابقًا في «سفر التكوين»: “اصنع لنفسك فلكًا من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخل ومن خارج بالقار”.

ماذا يمكننا اعتباره من هذا المشهد؟ أوّلًا، كان هناك فلك أو سفينة، وهي مساحة ما معزولة عن البيئة الخارجيّة (تطليه من الداخل ومن الخارج بالقار)، وقد يمثّل هذا الفلك الحاجة إلى مساحة آمنة تحمي نفسها من قِبَل الراغبين في النجاة. التفكير في النفس والبقاء هنا أمر إلهيّ ومشروع، فحتّى الأنبياء عليهم واجب حماية أنفسهم من التهلكة إذا قدروا على ذلك. ثانيًا، لم يشتمل فعل النجاة هروبًا ما، فنوح لم يهرب من بلده، بل إنّه بقي واصطفاه الله. يشمل لفظ الاصطفاء أحرف الجذر ص.ف.ا، وكذلك الجذر ط.ف.ا، فمَنْ اصْطُفِي طفا في الطوفان الّذي صفّى الحياة على الأرض؛ أي أنّه لا هروب من الطوفان؛ فإنّه حدث غامر لكلّ بقاع الأرض، والطريق الوحيدة للنجاة هي التحصّن في فلك ما معزول، مادّيًّا كان أو رمزًا لتحصّن أخلاقيّ أو عباداتيّ ما.

أخيرًا، وُصِف هذا الفلك بـ ’المشحون‘، وقد يكون لهذا الشحن دلالات كثيرة، منها الشحن بالذرّيّة والمحيط العائليّ والاجتماعيّ القريب، أو قد يكون كذلك جمع الحيوانات والنبات مثلما ورد في الكتاب المقدّس، وكذلك في أساطير كثيرة عن قصّة نوح. في هذا الشحن دلالة أنّ النجاة ليست نجاة فرديّة، بل إنّ على الفرد أن يحمل معه الثقافة والحضارة والجماعة بقدر ما تسمح له المساحة. النجاة مادّيّة، ولكنّها أيضًا جماعيّة وثقافيّة، أن تأخذ كلّ ما هو مفيد، وكلّ ما هو جميل من حولك لتعمّر به الأرض، من بعد الجرف والتهلكة.

 

الصالحون

للتلخيص، تستدعي تسمية العمليّة العسكريّة في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) بـ ’الطوفان‘ دلالات عميقة، تتمثّل أوّلًا بكونه حدثًا شديد العظمة، يغمر كلّ ما في محيطه من حياة استعماريّة طبيعيّة تتجاهل معاناة الفلسطينيّين، وتطبّع العلاقات بدول مجاورة بدون اكتراث لأكثر من 8 ملايين فلسطينيّ يعيشون تحت أشكال متنوّعة من الظلم والتهجير والإماتة، وكذلك بكونه حدثًا عنيفًا في حدّ ذاته بدون الكثير من الغايات والإستراتيجيّات والمناورات؛ ممّا يذكّر بمفهوم العنف الإلهيّ الّذي طرحه بنيامين.

النجاة ليست نجاة فرديّة، بل إنّ على الفرد أن يحمل معه الثقافة والحضارة والجماعة بقدر ما تسمح له المساحة. النجاة مادّيّة، ولكنّها أيضًا جماعيّة وثقافيّة

المثال الأوضح للعنف الإلهيّ طوفان نوح الّذي جاء بعد مدّة زمنيّة طويلة، بها عمّ الظلم والفساد في الأرض ممّا استدعى حدثًا مروّعًا جاء على هيئة موت جارف وتصفير للحياة وهدم للبنى الاجتماعيّة والقانونيّة والعرفيّة هدمًا كلّيًّا.

وفي خضمّ الإبادة نجد مَنْ بنى لنفسه فلكًا حصّن نفسه وما هو جميل من ثقافته فيه، وهو ما يذكّر بخالد نبهان؛ الرجل الغزّيّ الّذي اشتهر بتسجيل يُظهر فيه أجمل عبارات الحبّ والتسليم عند وداع جثمان حفيدته ريم، الّتي وُلِدَتْ في نفس يوم ميلاده، والّتي وصفها بـ “روح الروح”. هل يكون خالد نبهان نموذجًا للأنبياء والصالحين أبناء القرن الحادي والعشرين؟

 


 

جاد قعدان

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في «جامعة تل أبيب». معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *