Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

قانون إعفاء طلبة المعاهد الدينيّة من الخدمة العسكريّة… أزمة سياسيّة حقيقيّة

أصدرت المحكمة العليا الإسرائيليّة، في الـثامن والعشرين من آذار المنصرم (28/3/2024)، أمرًا مؤقّتًا يقضي بتجميد ميزانيّات المدارس الحريديّة التي لا يتجنّد طلبتها للخدمة العسكريّة، بدءًا من نيسان، إلى أن تَبُتّ في الالتماس في الأشهر القريبة وتتّخذ قرارًا نهائيًّا.

جاء قرار المحكمة بعد أن طلبت المحكمة، في نهاية شباط الماضي، من الحكومة أن تقدّم ردّها خلال شهر على الالتماسات التي قُدِّمت ضدّ قرار الحكومة تمديد الإعفاء من الخدمة العسكريّة لطلبة المعاهد الدينيّة بدون إقرار قانون جديد في الكنيست، وكذلك على الْتماس لوقف دفع الميزانيّات للمعاهد الدينيّة بعد انتهاء صلاحيَة قانون الإعفاء.

صلاحيَة قانون إعفاء طلبة المدارس الدينيّة من الخدمة العسكريّة الذي سُنّ عام 2015 انتهت عام 2023، وكان متوقَّعًا أن تقوم الحكومة بتقديم اقتراح قانون جديد لترتيب مسألة إعفاء طلبة المعاهد الدينيّة من الخدمة العسكريّة، بغية تفادي قرار من المحكمة العليا يتجاهل مَصالح ومَطالب الأحزاب الحريديّة، ويفرض معادَلات جديدة على الفئات الحريديّة. بَيْدَ أنّ محاولة نتنياهو اقتراح قانون جديد فشلت بسبب التناقضات والخلافات داخل التحالف الحكوميّ. عوضًا عن ذلك، مدّدت الحكومة إعفاء طلبة المعاهد من الخدمة بواسطة قرار حكومة فقط، وهو ما رفضته المحكمة.

قرار المحكمة جاء على خلفيّة الحرب على غزّة التي فتحت مجدَّدًا سؤال عدم خدمة الشبّان الحريديّين في الجيش، واستمرار تلقّيهم ميزانيّات خاصّة كبيرة على الرغم من تقليص الميزانيّات الحكوميّة عامّة، وتراجع الحالة الاقتصاديّة في إسرائيل. كذلك يأتي القرار بعد أن ألغت المحكمة العليا في بداية العام الحاليّ قانون “حجّة المعقوليّة” الذي سَنَّهُ التحالف الحكوميّ العام الماضي، والذي كان يهدف – في ما يهدف – إلى الحؤول دون تدخُّل المحكمة العليا في ترتيبات إعفاء طلبة المدارس الدينيّة من الخدمة العسكريّة بحجّة عدم معقوليّتها.

قرارُ المحكمة، وموقفُ الأحزاب الداعمة لترتيب الإعفاء (إقرار أعداد محدَّدة من طلبة المعاهد الدينيّة المستحقّين للإعفاء، وإقرار أعداد الشبّان الحريديّين الذين يجب أن يتجنّدوا) – ومن بينها حزب “المعسكر الرسميّ” الشريك في التحالف الحكوميّ – وموقفُ وزير الأمن، غالانت، كلُّ هذه ستُرغِم الحكومة على تقديم اقتراح قانون دائم لترتيب الإعفاء من الخدمة العسكريّة، خلال الدورة الصيفيّة القادمة للكنيست التي ستبدأ في منتصف شهر أيّار القادم.

ترى ورقة الموقف هذه أنّ محاولة سَنّ قانون لترتيب إعفاء طلبة المعاهد الدينيّة وتحديد أعداد للتجنيد، وفرض عقوبات على مَن يتهرّب من الخدمة، ستؤدّي إلى نشوء أزمة سياسيّة عميقة داخل التحالف الحكوميّ، بل قد تُفْضي إلى تفكُّك التحالف، بسبب الخلافات العميقة بين مركِّبات التحالف وداخل حزب الليكود ذاته، ولا سيّما بعد شنّ الحرب على قِطاع غزّة.

إعفاء الحريديّين من الخدمة العسكريّة: خلفيّة تاريخيّة

النقاش بشأن إعفاء الشبّان الحريديّين من الخدمة العسكريّة ليس جديدًا على المشهد السياسيّ في إسرائيل؛ بل لقد لازم الحقلَ السياسيّ منذ ما قبل إقامة دولة إسرائيل. ففي عام 1948، أمر رئيس أركان قوّات “الهـغـاناه”، يسرائيل غليلي، ألوية الجيش بعدم تجنيد طلبة المعاهد الدينيّة الـمُدْرَجين في “القوائم المعتمَدة”. وبعد إقامة إسرائيل، وافق رئيس الوزراء دافـيد بِنْ غـوريون على القرار في أكتوبر عام 1948، وبذلك جرى إعفاء 400 من طلبة المدرسة الدينيّة النشطين من الخدمة العسكريّة.

وفي عام 1958، توصّل المدير العامّ لوزارة الأمن، شمعون بيرس، إلى اتّفاق مع قادة المعاهد الدينيّة ينصّ على ترتيب الإعفاء لطلبة المعاهد، واشترط تأجيل الخدمة بأن يواصلوا الدراسة النشطة والفعليّة في المعاهد الدينيّة.

بعد حرب العام 1967، توجَّه رئيس الأركان إلى وزير الأمن للعمل على وقف الزيادة التدريجيّة في عدد طلبة المعاهد الدينيّة الذين يحصلون على الإعفاء. وبعد هذا الاستئناف، استقرّ الترتيب على إعفاء نحو 800 طالب كلّ عام. تغيَّرَ هذا الوضع في عهد حكومة بيـغـن الأولى، وهو ما أدّى إلى توسيع الخدمة العسكريّة منذ ثمانينيّات القرن الماضي.

أدّى توسيع الإعفاء من الخدمة العسكريّة منذ ثمانينيّات القرن الماضي إلى احتجاجات سياسيّة وانتقادات لهذه الترتيبات، وتحوّل مبدأ “تقاسُم العبء” ورفض المسّ بالمساواة في العبء إلى جزءٍ من البرنامج الانتخابيّ لعدد من الأحزاب السياسيّة. وبدأت منظَّمات حقوقيّة وجمعيّات أهليّة بتقديم الْتماسات إلى المحكمة العليا بغية إلغاء الإعفاء من الخدمة العسكريّة الممنوح للحريديّين. في العام 1998، تدخّلت المحكمة العليا لأوّل مرّة وطالبت الحكومةَ بترتيب ملفّ الإعفاءات، وبسَنّ قانون واضح يتعامل مع الضرر اللاحق بالمساواة بين المواطنين ويرتّب موضوع تقاسُم العبء. قالت المحكمة إنّ موضوعًا يمسّ بقيمة المساواة على هذا النحو لا يجب أن يكون عبْر قرار يُصْدره وزير الأمن، بل عبْر قانون أوّليّ يُسَنّ في الكنيست. المحكمة لم تُلغِ الترتيب القائم، بل طالبت بتنظيمه بواسطة قانون، وجرى تخصيص فترة سنة واحدة للكنيست لسَنّ القانون.

في محاولة لترتيب الإعفاء والتجنيد، شكّلت حكومة إيهود براك عام 1999 لجنة “طال” لفحص ترتيبات الإعفاء، واقتراح صيغة جديدة تتعامل مع قرار المحكمة العليا. وقد أصدرت اللجنة تقريرها عام 2000، مقترِحة بشكل عمليّ حلًّا وسطًا يحافظ على ترتيب التعليم في المعاهد الدينيّة، وبدائل للخدمة العسكريّة، وذلك منعًا لِما تراه تهرُّبًا وتحايُلًا وسوء استخدام للترتيب وليس في الترتيب ذاته.

في أعقاب تقرير لجنة “طال”، سُنَّ في العام 2002 “قانون طال” الذي يؤجّل الخدمة العسكريّة لطلبة المعاهد الدينيّة، وينظّم بدائل للخدمة العسكريّة أو مسارًا مُوازيًا للتعلُّم في المعاهد الدينيّة خلال الخدمة العسكريّة بما يُعْرَف بـِ “يِشِيـفات هِسْدِير”.

حاول قانون طال إيجاد حلول لانتقادات المحكمة العليا ومَطالبها، إلّا أنّه على أرض الواقع أخفق في الحدّ من ارتفاع عدد المستفيدين من الإعفاء. كذلك تبيَّنَ أنّ إطار الخدمة المدنيّة الذي جرى تطبيقه غير فعّال.

بعد تقديم أكثر من الْتماس ضدّ “قانون طال”، قرّرت المحكمة العليا عام 2007 إبطال القانون باعتباره غير دستوريّ لأنّه يمسّ بقيمة المساواة، وأمهلت الحكومةَ مدّة سنة لتغيير هذا القانون. استمرّت الحكومات المتتالية في المماطَلة والتأجيل والتحايل والالتفاف على قرارات المحكمة العليا ومَطالبها، وحاولت إيجاد ترتيبات تسمح بالاستمرار في الإعفاء وتمويل المعاهد الدينيّة. في العام 2014، سَنّت الحكومة قانونًا جديدًا يرمي إلى رفع مشارَكة الشبّان الحريديّين في الخدمة العسكريّة. آنذاك، تشكّلت الحكومة من تحالف بين حزب الليكود وحزب العمل، وحزبَيْ “يوجد مستقبل” وَ”يسرائيل بيتنو”، أي مجموعة من الأحزاب الداعمة لرفع مشارَكة الحريديّين في الخدمة العسكريّة. شمل القانون أدوات لتشجيع المشارَكة في أسواق العمل أو الخدمة العسكريّة، لكنّه لم يحدّد عقوبات على من يتهرّب من تنفيذ القانون، وقد كان من المفروض أن يبقى ساري المفعول حتّى حزيران عام 2023.

في العام 2015، بعد أن انضمّت الأحزاب الحريديّة إلى الائتلاف الحكوميّ، عدّلت الحكومة قانون الخدمة العسكريّة لعام 2014 على نحوٍ يفرّغه من مضمونه؛ إذ ألغت الحصص التي أُقِرّت لتجنيد طلبة المعاهد الدينيّة، ورفعت فترة التأقلم، وألغت العقوبات التي تُفرَض على من لا يلتزم بالقانون ويتهرّب، وفي الوقت نفسه ضمنت استمرار تمويل المعاهد الدينيّة وَ”يِشِيـفوت هِسْدِير”. وَفْقَ القانون، يسري هذا التعديل حتّى حزيران عام 2023.

مرّة أخرى ألغت المحكمة العليا عام 2018 التعديلات على القانون من عام 2015 (بحجّة عدم معقوليّته وأنّه ينتهك مبدأ المساواة)، وطالبت بسَنّ قانون خاصّ لترتيب موضوع الإعفاء يهتمّ بالحفاظ على قيمة المساواة. ومَنحت الحكومةَ مدّة عام لسَنّ القانون. وقد استطاعت الحكومات الإسرائيليّة التهرُّب وتأجيل سَنّ قانون جديد، بسبب تكرُّر الانتخابات البرلمانيّة في فترة الأعوام 2019 – 2022 وفترة الكورونا.

المحكمة تحسم

صلاحيَة قانون التجنيد انتهت في الأوّل من حزيران المنصرم (2023)، وبدلًا من أن تَسنّ الحكومة قانونًا جديدًا، فضّلت تمديد الوضع القائم بواسطة قرار حكومة. ذاك ما أدّى إلى تقديم الْتماسات جديدة إلى المحكمة العليا ضدّ التمديد وغياب قانون يرتّب الإعفاء، وضدّ استمرار تمويل المعاهد الدينيّة بغياب قانون إعفاء من الخدمة. في نهاية شباط الفائت (2024)، أمهلت المحكمةُ العليا الحكومةَ مدّة شهر للردّ على الالْتماسات المقدَّمة قبل إصدار قراراها. معنى هذا أنّه باتت الإشكاليّة الحاليّة مزدوجة؛ فمن ناحية ثمّة مطلب لترتيب الإعفاءات من الخدمة وتوضيح العقوبات للتهرُّب من تنفيذ القانون، ومن ناحية أخرى ثمّة تهديد بقرار محكمة يمنع تحويل الميزانيّات إلى المعاهد الدينيّة.

مع انتهاء المهلة المحدَّدة من المحكمة، لم تنجح الحكومة لا في سَنّ قانون لترتيب الإعفاء ولا في الاتّفاق مع المستشارة القضائيّة للحكومة على ردّ يقدَّم باسْم الحكومة إلى المحكمة العليا. عوضًا عن ذلك، أرسل رئيس الحكومة رسالة شخصيّة إلى المحكمة طالَبَها فيها بتمديد الفترة المحدَّدة للردّ بثلاثين يومًا إضافيًّا، متذرّعًا بانشغال الحكومة في الحرب على قِطاع غزّة، بينما كان ردّ المستشارة القضائيّة للحكومة أنّ الحكومة لم تنجح في التعامل مع طلب المحكمة، وأنّه اعتبارًا من الأوّل من نيسان سيتعيَّن على الدولة أن تعمل على تجنيد الحريديّين ووقف تمويل التعليم في المعاهد التوراتيّة للطلبة الذين يمتنعون عن تأدية الخدمة العسكريّة.

على ضوء ذلك، أصدرت المحكمة العليا قرارًا مؤقّتًا في اليوم نفسه الذي قُدِّم فيه ردّ الحكومة، وأمرت بتجميد ميزانيّات المدارس الدينيّة التي لا يلتحق طلبتها بالجيش اعتبارًا من الأوّل من نيسان، إلى أن تنتهي المحكمة من مناقشة الالتماسات واتّخاذ قرار نهائيّ في الموضوع، ورفضت اقتراح المستشارة القانونيّة للحكومة، ﭼـالي بَهَراﭪ ميارا، السماحَ بفترة انتقال قصيرة لترتيب الالتحاق بالجيش، وترتيب توقيف الميزانيّات. بذا يتعيّن على الجيش أن يبدأ أيضًا في تجنيد الشبّان الحريديّين.

مواقف المجتمع والأحزاب بشأن الإعفاء من الخدمة

غالبيّة المجتمع الإسرائيليّ والأحزاب العلمانيّة التي تطالب بالمساواة في تحمُّل العبء وتجنيد الشبّان الحريديّين لا تطالب بفرض التجنيد الإجباريّ على الشبّان الحريديّين كافّة، بل تطالب بتحديدِ أعداد طلبة المعاهد الدينيّة الذين يحقّ لهم نَيْل الإعفاء من الخدمة، والعملِ على تجنيد الآخرين، أو أن يؤدّي كلُّ مَن لا يتعلّم في معهد دينيّ خدمةً مدنيّةً بديلة. وتطالب الأحزاب الداعمة للتجنيد بتحديد عقوبات جنائيّة أو ماليّة على كلِّ مَن يتهرّب أو يتحايل على القانون. في المقابل، يعارض المجتمع المتديّن وأحزابه كلَّ قانون يحدّد عدد طلبة المعاهد الدينيّة المستحقّين للإعفاء من الخدمة، ويرفضون أيّ محاولة لفرض عقوبات على من يتهرّب من الخدمة.

المجتمع الإسرائيليّ يدعم بغالبيّته العظمى تغيير الوضع القائم وتجنيد الحريديّين. فقد أشار استطلاع “المعهد الإسرائيليّ للديمقراطيّة” أنّ 70% من المستطلَعين اليهود يؤيّدون تجنيد الحريديّين. نتائج الاستطلاع توضّح الخلافات داخل المجتمع اليهوديّ بشأن مسألة إعفاء طلبة المعاهد الدينيّة من الخدمة، إذ إنّ غالبيّة المتديّنين (قرابة 69%) يرفضون أيّ تعديلات على قانون التجنيد، ولا يرَوْن أنّ للحرب على غزّة تأثيرًا على موضوع الإعفاء. وكذلك قرابة 80% من المستطلَعين اليهود في استطلاع “المعهد لسياسات الشعب اليهوديّ” (الذي أُجرِيَ في الـ 14 من آذار) يؤيّدون تجنيد الشبّان الحريديّين للجيش. معنى هذا أنّ مطلب تغيير الحالة القائمة عابر للانتماءات الحزبيّة في إسرائيل، من ضمنها الصهيونيّة الدينيّة، ما عدا الأحزاب المتشدّدة الدينيّة – الحريديّة.

مواقف الأحزاب والقيادات من الإعفاء

ترفض غالبيّة الأحزاب العلمانيّة، والعديد من حركات الاحتجاج الإسرائيليّة، الإعفاءَ الجارف الممنوح لطلبة المعاهد الدينيّة من الخدمة العسكريّة، وتطالب بـِ”التساوي في حَمْل العبء”. وهو من المواضيع الأساسيّة التي يرفع رايتَها حزب “يوجَد مستقبَل” برئاسة يائير لـبـيد، وحزب “يسرائيل بيتينو” برئاسة أفيغدور ليبرمان، وكذلك حزب “المعسكر الرسميّ”، برئاسة بيني غانتس، الذي انضمّ إلى حكومة الطوارئ في أعقاب شنّ الحرب على غزّة. وقد كان هذا الموضوع أحد الأسباب المركزيّة التي حالَتْ دون انضمام أفيغـدور لبيرمان إلى حكومة برئاسة نتنياهو بعد انتخابات نيسان عام 2019، إذ كان قد اشترط أن تَسنّ الحكومة قانونًا يفرض الخدمة العسكريّة على الفئات المتديّنة، الأمر الذي يشكّل لدى الأحزاب المتديّنة -الحريديّة (الشريكة الطبيعيّة لنتنياهو) خطًّا أحمر. وقتذاك، حالَ هذا الموقفُ دون تشكيل نتنياهو حكومة جديدة، وهو ما أفضى إلى الذهاب إلى جولة انتخابات برلمانيّة جديدة خلال عام واحد.

حزب الليكود يميل إلى قبول موقف الأحزاب الحريديّة في موضوع إعفاء طلبة المعاهد الدينيّة من الخدمة العسكريّة، إذ لقد بنى الليكود برئاسة نتنياهو تحالفًا سياسيًّا وثيقًا مع الأحزاب الحريديّة منذ العام 2009. في أعقاب انتخابات عام 2022، تضمّنَ اتّفاق التحالف بين الليكود وَ”يهدوت هتوراة” بنودًا للتعامل مع مسألة الإعفاء من الخدمة العسكريّة، وبندًا لسَنّ “قانون أساس الخدمة”، وذلك لضمان ترتيب إعفاء طلبة المعاهد الدينيّة من الخدمة وعدم فرض عقوبات جنائيّة أو ماليّة على الشبّان الحريديّين الرافضين للخدمة والذين لا يتعلّمون في المعاهد الدينيّة، وهو ما يعني ترتيب الوضع القائم بصيغة قانون أساس. وكان أحد أهداف الأحزاب المتشدّدة الدينيّة – الحريديّة من دعم الخطّة الحكوميّة لتقييد القضاء هو الحيلولة دون تدخُّل المحكمة العليا في قانون ترتيب الإعفاء الذي من المفترَض سَنُّهُ وَفقًا لاتّفاق التحالف مع الليكود.

جاء في اتّفاق التحالف بين الليكود وَ”يهدوت هتوراة”، تحت بند “الدين والدولة”، أنّ التحالف الحكوميّ يلتزم، قبل إقرار ميزانيّة الدولة للعام 2023، بسَنّ قانون أساس “تعليم التوراة” الذي يَعتبر تعليم التوراة قيمة أساسيّة للشعب اليهوديّ يجب الحفاظ عليها وضمان الشروط الملائمة للطلَبة والمعاهد الدينيّة. في موازاة هذا، إلى أن يُقَرّ قانون الميزانيّة للعام 2023 تلتزم الحكومة بإنهاء تعديل قانون الخدمة العسكريّة، لضمان إعفاء طلبة المعاهد الدينيّة، بموافقة مركّبات التحالف الحكوميّ كافّة. كذلك شمل الاتّفاق ترتيب مكانة خاصّة للمنظّمات والمؤسّسات التنسيقيّة بين الجيش واليِشِيـفـوت وتحديث الميزانيّات المخصَّصة لها. بِذا التزم حزب الليكود والتحالف الحكوميّ بترتيب موضوع إعفاء طلبة المعاهد الدينيّة بواسطة قوانين، لمنع أيّ تدخُّل من قِبل المحكمة العليا أو الأحزاب التي تطالب بتغيير الوضع الراهن.

بناءً على هذا الالتزام، ومع اقتراب الموعد المحدَّد من قِبل المحكمة العليا لردّ الحكومة على الالتماسات ضدّ قانون الإعفاء، طرح نتنياهو تصوُّرًا لمبادئ القانون الجديد، دون أن يعرضه بصيغة قانون متكامل. ما رَشَحَ عن اقتراح نتنياهو لا يحتوي على تحديد أرقام لأهداف التجنيد لدى الحريديّين، ولا حصّة التجنيد، ويقترح رفع سنّ الإعفاء من الخدمة من 26 إلى 35. ولا يوضّح الاقتراح أيّ نوع خدمة سيُعْرَض على المتديّنين. بإيجاز، اقتراح نتنياهو للقانون لا يتعامل مع الانتقادات التي قُدِّمت تاريخيًّا ضدّ ترتيب الإعفاء من الخدمة، ولا يتعامل مع “احتياجات الجيش” بعد الواقع الجديد الذي أفرزته حرب الإبادة على غزّة، ولا يتعامل مع تزايد مطلب المساواة بالعبء في المجتمع الإسرائيليّ العلمانيّ والمتديّن الذين يخدمون في الجيش، ولا مع مَطالب المحكمة العليا. على الجملة، حاول اقتراح نتنياهو قبول شروط الأحزاب الحريديّة على نحوٍ غير رسميّ.

لقيتْ مسوَّدة الاقتراح معارَضة جِدّيّة بين مركِّبات التحالف، بل حتّى بين أعضاء في حزب الليكود ذاته، ولم يقدَّم الاقتراح كمشروع قانون للحكومة. وكان الموقف الـمُعارض الأبرز هو موقف وزير الأمن يوآف غـالانت.

أزمة سياسيّة مؤجَّلة

أعلن وزير الأمن يوآف غـالانت في مؤتمر صحفيّ خاصّ، في نهاية شهر شباط الماضي، أنّه لن يقبل بتقديم “قانون التجنيد”، لإعفاء المتديّنين – الحريديّين من الخدمة العسكريّة، دون موافَقة جميع مركِّبات حكومة الطوارئ؛ وهو ما عُدَّ أنّه يمنح بذلك رئيسَ كتلة “المعسكر الرسميّ”، بيني غـانتس، حقَّ الـفـيتو في صياغة اقتراح قانون التجنيد الجديد.

جاء موقف غالانت هذا، وَفقًا لتصريحاته، من منطلق اهتمامه بالحفاظ على الأمن القوميّ إبّان فترة الحرب. فقد كان من المستبعَد أن يعلن موقفًا شبيهًا دون حالة الحرب. وقد قال في المؤتمر الصحفيّ إنّه “هناك حاجة قوميّة ملحّة لتمديد الخدمة العسكريّة في صفوف القوّات النظاميّة وتمديد خدمة جنود الاحتياط”. واعتبر غـالانت أنّ الحرب أثبتت أنّه “على الجميع أن ينضمّوا إلى حَمْل النقّالة” (في إشارة إلى ضرورة توزيع الأعباء).

كذلك هدّد الوزير بيني غـانتس بالاستقالة إذا أُقِرّ قانون إعفاء المتديّنين “الحريديّين” من الخدمة العسكريّة الإلزاميّة الذي يقترحه نتنياهو. وقال غـانتس إنّ “قانون التجنيد المقترَح هو فشل أخلاقيّ خطير سيؤدّي إلى تصدُّع عميق في داخلنا، في وقت نحتاج فيه إلى القتال معًا ضدّ أعدائنا”، مضيفًا أنّه سيعمل على التصدّي له.

واعتبر غانتس أنّ “إقرار مثل هذا القانون هو خطّ أحمر في الأوقات العاديّة، وفي أوقات الحرب يكون كراية سوداء ترفرف فوقها. لن يتمكّن الشعب من قبوله، ولن يتمكّن الكنيست من التصويت عليه، وأنا وزملائي لن نستطيع أن نكون أعضاء في حكومة الطوارئ إذا أُقِرّ مثل هذا التشريع في الكنيست”.

بعد أيّام، ردَّ نتنياهو على إعلان غالانت موضّحًا أنّه لن يقبل بأيّ ابتزاز سياسيّ، وأنّه لا يملك أيُّ طرف حقَّ الـفيتو على قرارات الحكومة. بَيْدَ أنّ نتنياهو، بسبب ضعفه السياسيّ الحاليّ، لم يَقُمْ بإقالة غـالانت كما فعل قبل عام؛ فهو يدرك أنّ إقالة غالانت تعني حلّ حكومة الحرب وفضّ التحالف مع حزب “المعسكر الرسميّ”، فضلًا عن أنّ قبول شروط غالانت تعني خسارة الأحزاب المتديّنة الحريديّة، والذهاب إلى انتخابات بطبيعة الحال.

الحرب على غزّة تُغيِّر قواعد الإعفاء

قبل الحرب على غزّة، نجحت الحكومات الإسرائيليّة في المراوَغة والمناوَرة والتهرُّب من حسم ملفّ إعفاء طلبة المعاهد الدينيّة من الخدمة العسكريّة. إضافة إلى هذا، لم تمارس المؤسَّسة العسكريّة ضغطًا على نحوٍ جِدّيّ في سبيل تجنيد الحريديّين في العَقدَيْن الأخيرَيْن، وذلك بسبب عدم وجود نقص، أو حاجة، في القوى البشريّة في الجيش، ولأنّ تجنيد الحريديّين يتطلّب بعضَ الملاءَمات الداخليّة في الجيش وإضافةَ وَحْدات خاصّة لخدمة الحريديّين، من بينها – على سبيل المثال – ما يتعلّق بالفصل بين الرجال والنساء داخل مؤسَّسات ووحدات الجيش، فضلًا عن أنّ وزارة الأمن بادرت في العَقد الأخير إلى تقليص عدد أشهر الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، وتقليص عدد أيّام الخدمة في الاحتياط، نتيجة لتراجع التهديدات الأمنيّة الإستراتيجيّة على إسرائيل، وتطوُّر الجيش والأسلحة الحديثة.

كذلك هو الشأن في الجانب الاقتصاديّ؛ فقد أدّت الأحوالُ الاقتصاديّة الجيّدة في العَقْد الأخير، واستمرارُ النموّ الاقتصاديّ، وارتفاعُ الناتج المحلّيّ، وتَراجُعُ البطالة، إلى توسيع الميزانيّات المخصَّصة لفئات الحريديّين ورفع المخصَّصات الحكوميّة للعائلات المتديّنة والشبّان المتديّنين، ولا سيّما الطلبة الذين في المعاهد الدينيّة. الوضع الاقتصاديّ لم يشكّل عامل ضغط لتغيير الترتيبات القائمة ولا لتقليص الميزانيّات للفئات الحريديّة.

بَيْدَ أنّ الوضع تغيَّرَ منذ السابع من أكتوبر، وبات الجيش بحاجة إلى قوًى بشريّة تعوّض عن الخسائر في الحرب على غزّة؛ والحالة الاقتصاديّة لا تسمح باستمرار رصد ميزانيّات للحريديّين والمتديّنين على حساب تقليصات في سائر الفروع (على نحوِ ما حصل فعلًا في ميزانيّة عام 2023 أو ميزانيّة عام 2024)؛ وبات من غير المقبول على غالبيّة المجتمع الإسرائيليّ المسُّ بقِيَم المساواة وبتقاسُمٍ للعبء غيرِ منْصِف لصالح الفئات المتديّنة التي “لا تسهم” لا في الجهد العسكريّ ولا في الحالة الاقتصاديّة وأسواق العمل. في هذا الصدد، كان من اللافت موقف قسْم الميزانيّات في وزارة الماليّة الذي قال إنّ تكلفة عدم تجنيد الشبّان الحريديّين قد تصل في العَقد القادم إلى 100 مليار شيكل، ودعا إلى تجنيد الشبّان الحريديّين باستثناء قلّة منهم يتّجهون إلى تعلُّم التوراة.

خاتمة: أزمة جوهريّة

أزمة قانون إعفاء الحريديّين من الخدمة العسكريّة هي أزمة جوهريّة تطول لُبَّ علاقة الأحزاب الإسرائيليّة مع جمهور ناخبيها. اليهود المتزمّتون دينيًّا (الحريديّون) لا يستطيعون العيش مع قانون إعفاء يفرض حصصًا محدَّدة للتجنيد، ويفرض عقوبات ماليّة أو جنائيّة على كلّ من يتهرّب من الخدمة أو يتحايل على القانون، عبْر تسجيل صوريّ في المعاهد الدينيّة. في المقابل، يقع غـانتس في مطبّ أمام جمهور داعميه من العلمانيّين إذا لم يَفِ بوعده بإلغاء الخلل في تقاسم العبء ووقف تهرُّب الحريديّين من الخدمة ومن العمل أيضًا.

جاء قرار المحكمة الموقّت، والداعي إلى وقف فوريّ لميزانيّات المعاهد الدينيّة وتجنيد الحريديّين إلى حين مناقَشة الموضوع في جلسات المحكمة العليا بعد نحو شهرين، ليجعل الأزمات السياسيّة الحاليّة تتفاقم، وليُلزِم الحكومة بالعمل لمحاولة إيجاد مَخرج لهذه الأزمة، عن طريق سَنّ قانون جديد في الكنيست بأسرع وقت ممكن، وبخاصّة أنّ الأحزاب الحريديّة تشعر أنّها دفعت ثمن الخطّة الحكوميّة لتقييد القضاء التي عرَضَها وزير القضاء في بداية العام 2023، إذْ أُرجِئَ سَنّ قانون التجنيد وأُعطِيَت الأوْلويّة لسَنّ قانون أساس حجّة المعقوليّة وقانون منع الإطاحة برئيس حكومة، وثمن الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر والحرب على غزّة الذي غيّر ذهنيّةَ المجتمع الإسرائيليّ وسُلّمَ الأولويّات؛ إذ ازدادت معارَضة المجتمع الإسرائيليّ لإعفاء طلبة المعاهد الدينيّة من الخدمة العسكريّة والمطالَبة بالمساواة في تحمُّل العبء. وبالتالي فإنّها ستعمل على تعجيل سَنّ قانون لترتيب موضوع الإعفاء من الخدمة العسكريّة يضمن مصالح الفئات الحريديّة. اقتبست صحيفة “يديعوت أحرونوت”، في الأوّل من نيسان، جهات في الأحزاب الحريديّة قولها: “كنّا حمقى عند نتنياهو في قضيّة الإصلاحات القضائيّة، ولكن في نهاية المطاف خسرنا قانون التجنيد. أخبرونا دائمًا أنّه لن تكون ثمّة مشكلة مع قانون التجنيد، لأنّهم [أحزاب الائتلاف] سيُقِرّون من خلال الإصلاحات فقرة التغلُّب (التي تتيح التغلُّب على أيّ قرار تتّخذه المحكمة العليا)، بحيث إنّ أيّ قانون نشرّعه بشأن التجنيد سيكون فوق قرار المحكمة العليا. كان من الواجب إقرار هذا القانون في بداية إقامة الحكومة، قبل الإصلاحات القضائيّة. كان بإمكاننا إقراره قبل نحو عام”.

مطالَبة الحريديّين حزبَ الليكود بإقرار قانون تجنيد جديد، بعد انتهاء عطلة الكنيست في منتصف أيّار القادم، تعني أنّ الأزمة قد تنفجر مع بداية دورة الكنيست الصيفيّة. فمن المتوقّع أن يخلق اقتراح القانون إشكاليّاتٍ داخل التحالف الحكوميّ، ولا سيّما بعد مطالَبة غـانتس بتعجيل الانتخابات للكنيست وإجرائها في أيلول القريب القادم، وخلافاتٍ داخل حزب الليكود، بعد التراجع في مكانة وسلطة نتنياهو منذ الحرب على غزّة، إذ ظهرت أصوات تعلن مواقف ضدّ تمديد الإعفاء دون تحديد الحصص والأعداد، كان أبرزها موقف وزير الأمن غـالانت. هذه التناقضات والأهداف السياسيّة من شأنها أن تؤدّي إلى تفكُّك التحالف الحكوميّ، إذا لم تجد الحكومة صيغة لإرضاء الأحزاب الحريديّة وكذلك لإرضاء حزب المعسكر الرسميّ ووزير الأمن غـالانت.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *