Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

كيف تقوّض الحرب على قطاع غزّة ثقافة الديمقراطية حول العالم؟

استحضر مناصرو إسرائيل ذكرى الإبادة الجماعية النازية مرارا وتكرارا لتشريع القتل الجماعي للمدنيين في قطاع غزة. يحذر المؤرخ إنزو ترافيرسو من أن سوء الاستخدام السينيكي لذكرى المحرقة يشكل خطرًا جسيمًا على ثقافتنا الديمقراطية العالمية

ارتكب الذين ظنوا أن الاستشراق قد مات في عالم القرن الحادي والعشرين العالمي خطأ فادحًا، فالافتراضات الاستشراقية الأساسية التي حللها إدوارد سعيد منذ أكثر من أربعين عامًا نجدها واضحة في كل مكان الآن.

لقد حجّ كل رجال دولنا إلى تل أبيب ليؤكدوا لبنيامين نتنياهو دعمهم غير المشروط لإسرائيل. ويخبروننا أنه لا مجال للنقاش عندما تكون الأخلاق والحضارة على المحك. حتى وبعد أن اهتزت هذه الافتراضات التقليدية بعمق في الرأي العام الغربي بسبب مشهد المجاعة اليومي ومذابح الأطفال، فإنها صارت تجمع بين مناشداتها من أجل الاعتدال والإنسانية وبين التأكيد على مكانة إسرائيل باعتبارها ضحية يجب أن تدافع عن نفسها.

لم يأتِ أحد على ذكر حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم قط ضد عدوان مستمر منذ عقود. وتواصل الحكومات الغربية (مع استثناءات قليلة) بلا هوادة دعم قوة الإبادة الجماعية ماليًا وعسكريًا، بينما تعرقل إسرائيل توصيل المساعدات الإنسانية والطبية على الأرض.

ارتفعت عتبة التسامح مع الإجرام بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول بشكل كبير، ولم يعُد يتم احتساب عدد الأطفال الذين قتلوا تحت القنابل. قتلت حماس 1200 إسرائيلي، من بينهم ثمانمائة مدني، في حين قتل الجيش الإسرائيلي ما لا يقل عن 33 ألف[1] فلسطيني حتى الآن، بما في ذلك ما لا يزيد عن 5 آلاف من مقاتلي حماس.

كل شيء مخطط له: تدمير الطرق والمدارس والجامعات والمستشفيات والمتاحف والآثار، وحتى المقابر التي مسحتها الجرافات، وقطع الماء والكهرباء والغاز والوقود والإنترنت، وحرمان النازحين من الحصول على الغذاء والدواء، والإجلاء القسري لأكثر من مليون ونصف من سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة إلى جنوب القطاع، حيث قُصفوا، وحيث الأمراض والأوبئة. ومع عجز الجيش الإسرائيلي في القضاء على حماس، أخذ في تصفية المثقفين الفلسطينيين: العلماء والأطباء والفنيين والصحفيين والمثقفين والشعراء.

أصدرت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، وهي واحدة من نتاجات النظام الدولي الغربي، تحذيرًا من أن السكان الفلسطينيين في قطاع غزة يتعرضون لمذبحة منظمة وغير متوقفة، وأنه طردهم وحرمانهم من أبسط ظروف البقاء على قيد الحياة. تأخذ الحرب الإسرائيلية في غزة ملامح الإبادة الجماعية. لكن الاستشراق أقوى من الإرث القانوني لعصر التنوير.

حصن أوروبا

عندما ولد الاستشراق، كان اليهود جزءًا من الغرب وبوصفهم ضيوفاً ناكرين للجميل، ومستبعدين ومذلين ومحتقرين، وغالبا ما كانوا مهمشين، حتى إن أبرز وأقوى اليهود تعرضوا للوصم واعتبروا مُتصنّعين. لقد جسد اليهود الضمير الأوروبي النقدي.

أما اليوم، فقد تجاوزوا «حاجز اللون» وأصبحوا جزءًا مما يسمى بالحضارة اليهودية المسيحية، وصار الذين احتقروهم واضطهدوهم ذات يوم يحبّونهم ويتملقونهم. وأصبحت الحرب ضد معاداة السامية في أوروبا الراية التي تتجمع خلفها كل حركات ما بعد الفاشية واليمين المتطرف، الذين على استعداد للقتال ضد «البربرية الإسلامية» حتى قبل أن تتخلى عن تحيزاتها القديمة المعادية للسامية.

نشر الأب الروحي لإسرائيل، تيودور هرتزل في عام 1896 النص التأسيسي للصهيونية «الدولة اليهودية»، والذي عرّف فيه هذه الدولة المستقبلية بأنها «حصن لأوروبا ضد آسيا، وحارسة للحضارة ضد الهمجية». في عام 2024، تظل ظروف السؤال دون تغيير إلى حد كبير، لكن نتنياهو يحظى باحترام أكبر ويُسمع على نطاق واسع مما كان عليه هرتزل قبل أكثر من قرن من الزمان. طلب هرتزل المساعدة من بعض القوى الأوروبية، أما نتنياهو فلا يخشى أن يبدو متغطرسًا وناكرًا للجميل أمامهم.

تنتهك إسرائيل القانون الدولي منذ عقود، وهي اليوم ترتكب جريمة إبادة جماعية في غزة بأسلحة قدمتها لها الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية. يمكن لهذه القوى الغربية أن توقف الحرب خلال أيام قليلة، لكنها غير قادرة على إنكار دعمها لحكومة مجرمي حرب فاسدة يمينية متطرفة، لأن هذه الحكومة جزء منها، لذا تكتفي بالتوصيات والمناشدات بالاعتدال.

لقد أيدت جميع وسائل الإعلام الغربية الكبرى دون تحفظ الرواية الصهيونية التي تحتفي بلا مواربة بتاريخ البعض وتتجاهل أو تنفي تاريخ البعض الآخر. وفي أوروبا والولايات المتحدة، كما أشار سعيد ذات مرة، يُتعامل مع إسرائيل أبدًا باعتبارها دولة، بل باعتبارها «فكرة أو طلسمٍ من نوع ما»، تُستوعب لإضفاء الشرعية على أسوأ الانتهاكات باسم المبادئ الأخلاقية السامية.

وبهذا تبدو عقودًا من الاحتلال العسكري والمضايقات والعنف وكأنها دفاع عن النفس لدولة مهددة، وتظهر المقاومة الفلسطينية على أنها من مظاهر الكراهية المعادية للسامية. وباعتماد تفسيره من المنظور الاستشراقي، يتجلّى التاريخ اليهودي باعتباره تضحيةً طويلةً تنتظر الخلاص المستحق، ويصبح الفلسطينيون شعبًا بلا تاريخ.

مصلحة وطنية للدولة

يُصوَّر الطلاب المؤيدون للفلسطينيين كمعادين مسعورين للسامية في الكثير من وسائل الإعلام الرئيسة. وأُدرجُوا في العديد من الجامعات الأميركية على القوائم السوداء أو هُددوا بالعقوبات بسبب مشاركتهم في المظاهرات ضد الإبادة الجماعية في غزة. وقُمعت مسيراتهم في ألمانيا وإيطاليا بوحشية، في حين أعلن رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال عن إجراءات صارمة ضد الناشطين المؤيدين لفلسطين.

يُحتفلُ بذكرى الهولوكوست بوصفها دينًا مدنيًا في الاتحاد الأوروبي، وصار الدفاع عن إسرائيل، كما أكدت أنجيلا ميركل وأولاف شولتز مرارا وتكرارا «Staatsraison» أو مصلحة وطنية لجمهورية ألمانيا الاتحادية. واليوم، تستحضر ألمانيا هذه الذكرى لتبرير المذبحة التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة. وساد ألمانيا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول حملة تطهيرية ضد أي شكل من أشكال التضامن مع فلسطين، بيد إن ألمانيا، ليست سوى تعبير.

ومع ذلك، فإن ألمانيا ليست سوى التعبير المتطرف والحاد عن اتجاه آخر أوسع، وهو ما يفسر سبب رفع العديد من اليهود أصواتهم، وخاصة في الولايات المتحدة، ليقولوا: «ليس باسمنا».

آثار الدمار جراء القصف الإسرائيليّ في غزّة (Getty)

تُبرزُ الإشارات إلى «المصلحة الوطنية للدولة» التعقيدات الأخلاقية والسياسية المتأصلة في هذا المفهوم. وكما يعلم أي باحث في النظرية السياسية، فإن هذا المفهوم يكشف عن الجوانب الأكثر ظلامًا وسرية للسلطة السياسية. يربط علماء النظرية السياسية هذا المفهوم ارتباطًا وثيقًا بأفكار نيكولو ميكافيلي، حتى لو لم يظهر المصطلح نفسه في كتاباته، فإن المصلحة الوطنية للدولة تعني انتهاك القانون باسم الضرورات العليا لأمن الدولة.

ومن خلال استحضار المصلحة الوطنية الدولة، تخطط الأجهزة السرية للدول، التي ألغت عقوبة الإعدام، لإعدام الإرهابيين وغيرهم من الأشخاص الذين يهددون نظامهم الاجتماعي والسياسي. فمن ميكافيلي إلى فريدريش مينيكي وبول وولفويتز، تشير المصلحة الوطنية للدولة إلى «حالة الاستثناء»، أو الجانب غير الأخلاقي للدولة، حيث تنتهك الدولة قوانينها. ولا يمثل مبدأ «المصلحة الوطنية»، الديمقراطية، وإنما غوانتانامو.

وبالتالي، فعندما تدعم ألمانيا إسرائيل من خلال استحضار مبدأ المصلحة الوطنية للدولية، فإنها تعترف ضمنًا بعدم أخلاقية سياستها. واليوم، يؤدي الدعم غير المشروط الذي تقدمه ألمانيا لإسرائيل إلى تقويض الثقافة الديمقراطية وطرق التدريس والذاكرة التي بُنيت على مدى عدة عقود، وخاصة بعد أزمة المؤرخين في منتصف الثمانينيات[2].

وتلقي هذه السياسة بظلال قاتمة على نصب الهولوكوست التذكاري الذي ينتصبُ في قلب برلين، والذي لم يعد يبدو تعبيرًا عن وعي تاريخي متألم [على الماضي] وعن فضائل الذكرى، بل صار رمزًا صارخًا للنفاق.

عقوبة العدالة

كتب المؤرخ الفرنسي مارك بلوخ في عام 1921 مقالة مثيرة للاهتمام حول انتشار الأخبار الكاذبة في زمن الحرب. ولاحظ كيف نشرت الصحف الألمانية، في بداية الحرب العالمية الأولى، مباشرة بعد غزو بلجيكا المحايدة، تقارير لا حصر لها عن فظائع لا تصدق. كتب بلوخ: «تولد الأخبار الكاذبة دائمًا من صورٍ نمطية جماعية تسبق ولادتها»، مستنتجًا الاستنتاج التالي: «الأخبار الكاذبة مرآة يتأمل فيها “الضمير الجماعي” سماته».

عند قراءة الصحف الغربية بعد الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان لدى المؤرخين شعور غريب بأنهم شاهدوا الأمر ذاته من قبل. ولكن في هذه المرة حُشدت أقدم الأساطير المعادية للسامية فجأة ضد الفلسطينيين. وشدد بلوخ على أن الأخبار والأساطير الكاذبة كانت دائما «تملأ حياة البشرية». لقد وصف العديد من مؤرخي محاكم التفتيش ومعاداة السامية بعناية الدور الذي لعبته أسطورة «فرية الدّم» من العصور الوسطى إلى أواخر روسيا القيصرية. انتشرت الشائعات القائلة بأن اليهود كانوا يقتلون الأطفال المسيحيين لاستخدام دمائهم لأغراض طقوسية على نطاق واسع قبل تنفيذ أي مذبحة ضدهم.

نشرت معظم وسائل الإعلام الغربية بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول بما في ذلك العديد من الصحف المرموقة والتي يُفترض أنها جادة، أخبارًا عن نزع أحشاء نساء حوامل وقطع رؤوس أطفال أو وضعهم في أفران على يد مقاتلي حماس. قُبلت هذه الافتراءات التي نشرها الجيش الإسرائيلي على الفور دليلًا، وقد كررها كل من جو بايدن وأنتوني بلينكن في خطاباتهما، في حين هُمس دحضها همسًا على هامش الأخبار بعد بضعة أسابيع فقط. فالأساطير أدائية، كما لاحظ بلوخ: «في اللحظة التي يصبح فيها الخطأ سببًا لسفك الدماء، فإنه يُثبَّت كحقيقة تثبيتًا لا رجعة فيه».

من الاحتجاجات الطلّابيّة المؤيدة للفلسطينيّين في أميركا (Getty)

أنكر العديد من مقاتلي المقاومة الشيوعية الذين رُحِّلُوا إلى المعسكرات النازية وجود معسكرات الاعتقال (الغولاغ) السوفيتية بعد الحرب العالمية الثانية، إذ استوعبوا في داخلهم وبكل عمق قياسًا منطقيًا قويًا: الاتحاد السوفييتي بلد اشتراكي، والاشتراكية تعني الحرية، وبالتالي لا يمكن لمعسكرات الاعتقال أن توجد فيه ويجب أن تكون نتاجًا للدعاية الأميركية.

وينتشر اليوم إنكار مماثل على نطاق واسع بين الأشخاص المقتنعين بأن إسرائيل، الدولة التي نهضت من رماد المحرقة، لا يمكنها ارتكاب جريمة إبادة جماعية. فإسرائيل في نظرهم ديمقراطية حقيقية، واحتلال الأراضي الفلسطينية يشكل حماية ضرورية ضد تهديد حيوي. يخلق المؤمنون حقائقهم الخاصة، حقائق لا تزعزع أسس إيمانهم. لا يختلف المؤمنون الحقيقيون الصهاينة كثيرًا عن المؤمنين الحقيقيين الستالينيين.

وتعمل وسائل الإعلام الغربية على تطبيع هذه الأحكام المسبقة من خلال نشر الأكاذيب. يعدّ الاستشراق مرتعًا للخرافات والإنكار والأخبار الكاذبة. وبعكس الواقع، رُسمت سردية متناقضة تحول إسرائيل من دولة ظالمة إلى ضحية. ووفقًا لهذه السردية، فإن حماس تريد تدمير إسرائيل، ومعاداة الصهيونية هي معاداة للسامية وتنكر حق إسرائيل في الوجود، وقد كشفت مناهضة الاستعمار أخيرًا عن قاعدتها المناهضة للغرب والأصولية ومعاداتها للسامية.

سوف يصبح النضال ضد معاداة السامية أكثر صعوبة بعد إساءة فهمها وتشويهها واستخدامها كسلاح، والتقليل من شأنها. وبالرغم من وجود خطرٍ قائم في التقليل من شأن الهولوكوست في حد ذاته: فحرب الإبادة الجماعية التي تشن باسم إحياء ذكرى المحرقة لن تؤدي إلا إلى الإساءة إلى تلك الذكرى ذاتها وتشويه سمعتها. سوف تفقد ذكرى المحرقة، باعتبارها «دينًا مدنيًا» وطقسًا لتقديس لحقوق الإنسان ولمكافحة العنصرية والديمقراطية، كل فضائلها البيداغوجية.

اُستخدم هذا «الدين المدني» في الماضي بمثابة برادايم لبناء ذاكرة الجرائم وعمليات الإبادة الجماعية الأخرى، من الدكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية إلى المجاعة الكبرى في أوكرانيا، وصولًا إلى الإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا. ولكن حين تُربط هذه الذكرى بنجمة داود التي يرتديها جيش يرتكب جريمة إبادة جماعية، فستكون العواقب وخيمة.

كانت ذكرى الهولوكوست لعقود من الزمن قوة دافعة لمناهضة العنصرية والاستعمار، واستخدمت لمحاربة جميع أشكال عدم المساواة والإقصاء والتمييز. وإذا شوِّه هذا النموذج التذكاري، فسندخل عالمًا حيث كل شيء متساوٍ وتفقدُ الكلمات قيمتها. وسوف يضعف مفهومنا للديمقراطية، التي ليست مجرد نظام قوانين، بل هي أيضًا ثقافة وذاكرة وإرث تاريخي. وسوف تشهد معاداة السامية، التي تشهد تراجعًا تاريخيًا، ظهورًا جديدًا.

قوة اليأس

كان هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول فظيعًا وصادمًا. لقد كان المقصود أن يكون كذلك، ولا شيء يبرر ذلك. ولكن لا بد من تفسيره، وليس استنكاره فحسب، بل وحتى أن نستوعبه دون إضفاء الطابع الأسطوري عليهِ ودون إحاطته بهالة شيطانية.

ثمة جدل قديم حول جدلية الهدف والوسيلة. فإذا كان الهدف تحرير شعب مظلوم، فثمة وسائل لا تتوافق مع هذا الهدف: فالحرية لا تتناغم مع قتل المدنيين. إلا أن هذه الوسائل غير المتناسبة والدنيئة قد استخدمت في سياق نضال مشروع ضد احتلال غير قانوني وغير إنساني وغير مقبول.

كان السابع من أكتوبر/تشرين الأول نتيجة عقود من الاحتلال والاستعمار والقمع والإذلال والمضايقات اليومية. فقد قُمعت الاحتجاجات السلمية كافة بالدم، كما تعرضت اتفاقيات أوسلو دائمًا للتخريب من قِبَل إسرائيل، وتعمل والسلطة الفلسطينية، العاجزة تمامًا، في الضفة الغربية بمثابة الشرطة المساعدة للجيش الإسرائيلي. وكانت إسرائيل تستعد «للتفاوض على السلام» مع الدول العربية على حساب الفلسطينيين، واعترف قادتها علانية بهدف توسيع المستعمرات في الضفة الغربية.

وفجأة، أعادت حماس الجميع وكل الأوراق إلى الطاولة. كشف هجومها عن ضعف إسرائيل، التي يمكن مهاجمتها داخل حدودها. وبدا الفلسطينيون من خلال حماس، قادرين على الهجوم، وليس تلقّي الضربات فقط. إن العنف الفلسطيني له قوة اليأس. وليس الأمر إعجابًا بيأسهم، ولكني من الضروري أن نفهم جذوره.

حتى الآن، بدلًا من محاولة فهم هذه جذوره، طغت الحاجة إلى الإدانة المطلقة له، وسرعان ما اُستخدمت ذريعة لإضفاء الشرعية على حرب ضد المدنيين الفلسطينيين، وهي الأكثر فتكا بكثير من هجوم حماس. وهذا ما يفسر الشعبية المتزايدة والدعم الذي تتمتع به حماس، والذي لا يمكن اختزاله بالتأكيد في سلطتها القسرية، خاصة بين الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية.

إن قتل وإصابة المدنيين أمر ضار بالقضية الفلسطينية. إلا أن الاستنكار الذي لا مفر منه لهذه الوسائل لا تنفي شرعية المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، وهي مقاومة تنطوي ضمنًا على الكفاح المسلح. كثيرًا ما كان سلاح الفقراء في الحروب غير المتكافئة. وينطبق على حماس التعريف الكلاسيكي لـ «المقاتل الحزبي/غير النظامي»: فهو مقاتل غير نظامي يحمل دافعًا إيديولوجيًا قويًا، ومتأصلًا في منطقة وسكان يوفرون له الحماية.

ويحتجز الجيش الإسرائيلي سجناء فلسطينيين، بمن فيهم المراهقون وأفراد عائلات المقاتلين الذين يمكن أن يستمر اعتقالهم الإداري لأشهر أو سنوات، في حين لا تستطيع حماس سوى احتجاز الرهائن. تطلق حماس الصواريخ، بينما تلحق إسرائيل «أضرارًا جانبية» خلال عملياتها العسكرية. إن إرهابها هو مجرد غيضٌ من فيضِ إرهاب الدولة الإسرائيلي. إذا كان الإرهاب غير مقبول دائمًا، فإن إرهاب المضطهدين عادة ما يتولد عن إرهاب مضطهديهم الأشد سوءًا.

كتب جان أميري أنه عندما تعرض للتعذيب حينما كان مقاتلًا في المقاومة على يد النازيين في قلعة بريندونك، كان يرغب في إعطاء «شكل اجتماعي ملموس لكرامته من خلال لكم وجه إنساني»، ويقصد هنا وجه مضطهده. ولاحظ في عام 1969 أن إحدى أصعب المهام تتمثل في تحويل العنف العقيم والانتقامي إلى عنف ثوري تحريري. تستحق حججه، التي تردد صدى آراء فرانز فانون، اقتباسًا مطولًا:

لا بد من تحقيق الحرية والكرامة بالعنف، حتى تكون للحرية والكرامة قيمتها. مرة أخرى لماذا؟ ولا أخشى مناقشة مفهوم الانتقام المنبوذ والمذل، الذي يتجنبه فانون. يخلق العنف الانتقامي، على النقيض من العنف القمعي، المساواة في السلبية [التلقي]: المساواة في المعاناة. يمنعُ العنف القمعي المساواة ويجرد الإنسان من إنسانيته. في حين أن العنف الثوري[3] إنساني بشكل بارز. أعلم أنه من الصعب الاعتياد على هذه الفكرة، ولكن من المهم النظر إليها على الأقل في النقاشات النظرية غير الملزمة. ولتوسيع استعارة فانون: يجب على المضطهَدين، والمستعمَرين، ونزلاء معسكرات الاعتقال، وربما حتى العبيد المأجورين في أميركا اللاتينية، مواجهة مضطهديهم[4] ليصيروا من بني الإنسان، وتُجبر هذه المواجهة الظالم، الذي لا يكون إنسانًا في دوره هذا، أن يصير إنسانًا أيضًا.

من النهر إلى البحر

لقد أكَّد السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحرب غزة فشل اتفاقيات أوسلو. فبدلًا من إرسائها الأساس لسلام دائم يقوم على التعايش بين دولتين ذات سيادة، خرَّبت إسرائيل هذه الاتفاقيات على الفور، وصارت الأساس لاستعمار الضفة الغربية، وضم القدس الشرقية، وتهميش السلطة الفلسطينية الفاسدة وفاقدة للمصداقية.

يمثل فشل اتفاقات أوسلو نهاية مشروع حل الدولتين. وما يزال الأوروبيون والأميركيون يفكرون فيه بشكل غامض، دون استشارة أي ممثل فلسطيني، لإعادة تقييم المنطقة بعد الحرب، وهو ما يعني تقليصه بانتوستان أو اثنين تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية. لقد أصبحت حل الدولتين مستحيلًا، رغم أنه في ظل ظروف حرب الإبادة الجماعية في غزة، لم يعد من الممكن تصور دولة ثنائية القومية أيضًا.

تسمية (Getty)

تصور إدوارد سعيد قبل عشرين عامًا دولة علمانية ثنائية القومية وقادرة على ضمان المساواة الكاملة في الحقوق بين مواطنيها اليهود والفلسطينيين وأنها السبيل الوحيد الممكن للسلام. هذا هو معنى الشعار الذي يرفعه اليوم الملايين من المتظاهرين في مختلف أنحاء العالم (بما في ذلك عدد كبير من اليهود): «من النهر إلى البحر، سوف تتحرر فلسطين»، على الرغم من أن أغلب وسائل الإعلام الرئيسة تصر على اعتباره شعارًا معادياً للسامية.

يجب أن يقرر سكان فلسطين وإسرائيل مستقبلهم. ولكن لا ينبغي لتقرير المصير أن يتجاهل بعض الدروس التاريخية. واليوم، لا يمكن لحل الدولتين أن ينجح إلا من خلال عملية تطهير عرقي. وسيكون هذا حلًا غير عقلاني في أرض يتقاسمها نفس العدد من اليهود والفلسطينيين.

وحتى لو افترضنا إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية، وهو أمر غير محتمل إلى حد كبير، فإن هذا لن يكون مرضيًا على المدى الطويل. إن قيام دولة صهيونية إلى جانب دولة إسلامية سيكون بمثابة تراجع تاريخي لا يمكن أن يوفر موطنًا لأي حوار أو تبادل بين الثقافات واللغات والأديان. وكما يخبرنا تاريخ أوروبا الوسطى ومنطقة البلقان في القرن العشرين، فإن هذا المنظور من شأنه أن يؤدي إلى مأساة.

ولذلك يرى الكثيرون أن دولة ثنائية القومية يتعايش فيها اليهود والفلسطينيون على أسس متساوية هي الحل الوحيد. يبدو هذا الخيار اليوم غير عملي، ولكن إذا فكرنا على المدى الطويل، فإنه يبدو منطقيا ومتماسكا. بدت فكرة بناء الاتحاد الأوروبي من خلال جمع ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا في عام 1945 فكرة غريبة وساذجة. التاريخ مليء بالأحكام المسبقة التي تُخلي عنها والتي تبدو غبية بأثر رجعي. في بعض الأحيان تساعد المآسي على فتح آفاق جديدة.

تساءل سعيد بقلق قبل عشرين عاما «أين النظراء الإسرائيليون لنادين غورديمر، وأندريه برينك، وأثول فوغارد، وللكتاب البيض في جنوب إفريقيا الذين تحدثوا بوضوحٍ ضد شرور الفصل العنصري؟» والصمت في الإجابة على هذا السؤال صامٌّ للآذان اليوم، كما كان وقت طرحهِ، اللهم من بعض الأصوات الهامشية والمعزولة. ولكن الوضع قد تغير بشكل جذري. أظهرت إسرائيل ضعفها وأنها فاقدة للشرعية الأخلاقية عبر غضبها المدمر

لقد أصبحت القضية الفلسطينية راية للجنوب العالمي ولقطاعات واسعة من الرأي العام، وخاصة الشباب، في كل من أوروبا والولايات المتحدة. إن ما هو على المحك اليوم ليس وجود إسرائيل، بل بقاء الشعب الفلسطيني. إذا انتهت حرب غزة بنكبة ثانية، فإن شرعية إسرائيل ستقوَّضُ إلى الأبد. ولن تتمكن الأسلحة الأميركية في هذه الحالة، ولا وسائل الإعلام الغربية، ولا المصلحة الوطنية الألمانية، ولا ذاكرة الهولوكوست المشوهة، من إنقاذها.


إحالات:

[1] نُشرت المقالة في 6 أبريل/نيسان 2024، وقد وصل عدد الشهداء في حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة إلى 34,904 شهيدًا حتى تاريخ 9 مايو/أيَّار 2024، كما ارتفع عدد الجرحى إلى 78,514 جريحًا (المُترجم).

[2] وهي أزمة واجهت الأكاديميين المحافظين ويسار الوسط والمثقفين في ألمانيا الغربية حول كيفية إدماج ووضع تاريخ ألمانيا النازية والمعرفة في التاريخ الألماني وفي مخيلة ووعي الشعب الألماني.

[3] يُنظر أيضًا مفهوم العنف الثوري كما تناوله الحكيم جورج حبش في كتابه «الثوريون لا يموتون أبدًا» (المُترجم).

[4] استعمل الكاتب تعبير «See the feet of the oppressor»، وهو يرتبط بسفر إشعياء، الإصحاح 26، الآية 6، والتي تنص على «The foot shall tread it down, even the feet of the poor, and the steps of the needy»، والتي تعني أن أقدام الفقراء البائسين تلمس أرض وأماكن إقامة مضطهديهم، وهي تستخدم في دلالة على تغير ديناميات القوة بين المن يُمارس الاضطهاد ومن يقع عليه فعل الاضطهاد (المُترجم).


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *