Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

نتنياهو في رئاسة الوزراء: إسرائيل تُدمّر نفسها

في أحد أيام أبريل/نيسان الهادئة عام 1956، توجّه موشيه ديان، رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي وقتها، جنوبًا إلى ناحال عوز، الكيبوتس حديث الإنشاء بالقرب من حدود قطاع غزّة. جاء ديان لحضور جنازة روي روتبرغ البالغ من العمر 21 عامًا، والذي قُتل في صباح اليوم السابق على يد فلسطينييْن، بينما كان يقوم بدورية في الحقول على ظهر خيله. وسحب القتلة جثة روتبرغ إلى الجانب الآخر من الحدود، وعُثر عليه مشوهًا وبأعين منتفخة. وأدّت الحادثة لصدمة ومعاناة وطنيتيْن في إسرائيل.

لو كان ديان يتحدث في إسرائيل المعاصرة، لكان قد استخدم تأبينه إلى حد كبير للتنديد بالوحشية الرهيبة لقتلة روتبيرغ. بيد أن تأبينه في الخمسينيات كان متعاطفًا بشكل ملحوظ مع الجُناة، إذ قال ديان: «دعونا لا نلقي اللوم على القتلة. منذ ثماني سنوات، وهم يجلسون في مخيمات اللاجئين في غزة، وأمام أعينهم كنا نحوِّل الأراضي والقرى التي سكنوا فيها هم وآباؤهم إلى ممتلكاتنا». كان ديان يلمح إلى النكبة، عندما طُرد أغلبية العرب الفلسطينيين إلى المنفى؛ بسبب انتصار إسرائيل في حرب الاستقلال عام 1948. ونُقل العديد منهم قسرًا إلى غزة، بما في ذلك سكان المجتمعات التي أصبحت في نهاية المطاف بلدات وقرى يهودية على طول الحدود.

لم يكن ديان مؤيدا للقضية الفلسطينية، حيث هجّر الفلسطينيين المتبقيين في بلدة المجدل الحدودية، عسقلان الآن، في عام 1950 بعد توقف العمليات القتالية، إلا أن ديان قد أدرك ما يرفض العديد من الإسرائيليين اليهود قبوله: لن ينسى الفلسطينيون النكبة أبدًا ولن يتوقفوا عن الحلم بالعودة إلى ديارهم. وأضاف في تأبينه «دعونا لا نتوقف عن رؤية الكراهية التي تلهب وتملأ حياة مئات الآلاف من العرب الذين يعيشون حولنا. هذا هو خيار حياتنا، أن نكون مستعدين ومسلحين، أقوياء ومصممين، لألّا يُسقط السيف من قبضتنا وتنتهي حياتنا».

موشيه دايان في ثكنة عسكريّة بالقرب من غزّة 1965 (Getty)

تحقق تحذير ديان القديم في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 تحققًا دمويًا إلى أبعد حَد. ففي أعقاب خطة دبرها يحيى السنوار[1]، أحد قادة حماس المولود لعائلة أجبرت على ترك المجدل، غزا المسلحون الفلسطينيون إسرائيل عبر حوالي 30 نقطة على طول حدود قطاع غزّة. وحققوا مفاجأة كاملة، حيث اجتاحوا دفاعات إسرائيل الضعيفة[2] وشرعوا في مهاجمة مهرجان موسيقي، وبلدات صغيرة، وأكثر من 20 كيبوتسًا. قتلوا حوالي 1200 مدني وجنديّ، وخطفوا أكثر من 200 رهينة. اغتصبوا ونهبوا وأحرقوا[3]. لقد عاد أحفاد سكان مخيم ديان للاجئين للانتقام، والذين تغذيهم الكراهية والبغضاء التي وصفها، بيد أنهم الآن أفضل تسليحًا وتدريبًا وأكثر تنظيمًا.

كان السابع من أكتوبر أسوأ كارثة في تاريخ إسرائيل، ونقطة تحول وطنية وشخصية لكل من يعيش فيها، أو يرتبط بها. رد الجيش الإسرائيلي، بعد فشله في وقف هجوم حماس، بقوة ساحقة وقتل الآلاف من الفلسطينيين ودمّر أحياء بأكملها في قطاع غزّة. ولكن حتى في الوقت الذي يقوم فيه الطيارون بإسقاط القنابل وتُطهّر قوات الكوماندوز أنفاق حماس، فإن الحكومة الإسرائيلية لم تأخذ في الاعتبار العداء الذي أدى إلى الهجوم، أو السياسات التي قد تمنع وقوع هجوم آخر. ويأتي صمتها بناءً على طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي رفض وضع أي رؤية أو نظام لما بعد الحرب[4]. لقد وعد نتنياهو بـ «تدمير حماس»، ولكن باستثناء القوة العسكرية، ليس لديه إستراتيجية للقضاء على الجماعة ولا خطة واضحة لما سيحل محلها كحكومة الأمر الواقع في غزة ما بعد الحرب.

فشله في وضع إستراتيجية ليس من قبيل الصدفة، كما أنه ليس فعلًا براغماتيًا يهدف إلى الحفاظ على تماسك ائتلافه اليميني. فلكي تعيش إسرائيل في سلام، يتعين عليها أن تتصالح مع الفلسطينيين، وهو الأمر الذي عارضه نتنياهو طوال حياته المهنية. لقد كرّس فترة ولايته رئيسًا للوزراء، وهي الأطول في تاريخ إسرائيل، لتقويض وتهميش الحركة الوطنية الفلسطينية. ووعد شعبه بأنهم قادرون على تحقيق الازدهار من دون السلام. وأقنع الإسرائيليين أنهم قادرون على الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية للأبد بتكلفة قليلة، سواء محليًا أو دوليًا. وحتى الآن، في أعقاب السّابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم يغيّر رسالته هذه. والشيء الوحيد الذي قال نتنياهو إن إسرائيل ستفعله بعد الحرب هو الحفاظ على «غلاف أمني» حول غزة، وهو تعبير ملطف، ويعني حالة احتلال طويلة الأمد، بما في ذلك تطويق على طول الحدود من شأنه أن يلتهم جزءاً كبير من الأراضي الفلسطينية القليلة المتبقية.

مقاتلي حماس يتحرّكون نحو حاجز إيرز في السابع من أكتوبر (Getty)

ولكن لم يعد من الممكن لإسرائيل أن تظل ضيقة الأفق إلى هذا الحد. لقد أثبتت هجمات السّابع من أكتوبر/تشرين الأول أن وعد نتنياهو كان أجوفًا. وعلى الرغم من عملية السلام الميتة وتراجع اهتمام الدول الأخرى، إلا أن الفلسطينيين حافظوا على قضيتهم حية. وفي لقطات الكاميرات التي التقطتها حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، يمكن سماع الغزاة وهم يصرخون: «هذه أرضنا!» في أثناء عبورهم الحدود لمهاجمة الكيبوتسات. صاغ السنوار العملية علنًا على أنها عمل من أعمال المقاومة، وكان الدافع الشخصي، على الأقل جزئيًا، هو النكبة. وقضى السنوار 22 عامًا في السجون الإسرائيلية، ويقال إنه كان يقول لزملائه في الزنزانة باستمرار إنه يجب هزيمة إسرائيل حتى تتمكن عائلته من العودة إلى قريتها.

لقد أجبرت صدمة السابع من أكتوبر/تشرين الأول الإسرائيليين، مرة أخرى، على إدراك أن الصراع مع الفلسطينيين يشكل أهمية مركزية لهويتهم الوطنية، ويشكل تهديدًا لرفاهيتهم. ولا يمكن التغاضي عنه أو تجاوزه، واستمرار الاحتلال، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وفرض الحصار على قطاع غزة، ورفض تقديم أي تسوية إقليمية (أو حتى الاعتراف بالحقوق الفلسطينية) لن يجلب للبلاد الأمن الدائم. ومع ذلك، فإن التعافي من هذه الحرب وتغيير المسار سيكون أمرًا صعبًا للغاية، وليس فقط لأن نتنياهو لا يريد حل الصراع الفلسطيني. لقد أتت هذه الحرب على إسرائيل في أكثر لحظاتها انقسامًا في التاريخ. وفي السنوات التي سبقت الهجوم، كانت إسرائيل منقسمة بسبب جهود نتنياهو لتقويض مؤسساتها الديمقراطية وتحويلها إلى دولة استبدادية قومية ثيوقراطية. وأثارت مشاريع القوانين والتغييرات التي قدمها احتجاجات وانشقاقات واسعة النطاق هددت بتمزيق الدولة قبل الحرب وستطاردها بمجرد انتهائها. والواقع أن المعركة حول بقاء نتنياهو سياسيًا سوف تصبح أكثر حدة؛ مما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، الأمر الذي يجعل من الصعب على إسرائيل أن تسعى إلى تحقيق السلام.

ولكن مهما حدث لرئيس الوزراء، فمن غير المرجح أن تجري إسرائيل محادثة جدية حول التسوية مع الفلسطينيين. لقد تحول الرأي العام الإسرائيلي ككل نحو اليمين. أصبحت الولايات المتحدة منشغلة على نحو متزايد بانتخابات رئاسية حاسمة. ولن يكون لديها سوى القليل من الطاقة أو الحافز لإعادة تفعيل عملية سلام ذات معنى في المستقبل القريب.

ما يزال السابع من أكتوبر/تشرين الأول يمثل نقطة تحول، ولكن الأمر متروك للإسرائيليين ليقرروا نوع نقطة التحول التي ستكون عليها. وإذا استجابوا أخيرًا لتحذير ديان، فمن الممكن أن يجتمع شتات إسرائيل وأن يرسم الطريق إلى السلام والتعايش الكريم مع الفلسطينيين. لكن المؤشرات حتى الآن تشير إلى أن الإسرائيليين، بدلًا من ذلك، سيواصلون القتال فيما بينهم وسيواصلون الاحتلال إلى أجل غير مسمى. وهذا من شأنه أن يجعل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول بداية عصر مظلم في تاريخ إسرائيل، عصر يتسم بمزيد من العنف المتزايد، ولن يكون الهجوم حدثًا منفردًا، بل نذيرًا لما سيأتي.

وعد منقوض

كان نتنياهو في التسعينيات نجمًا صاعدًا لدى اليمين الإسرائيلي. وبعد أن صنع اسمًا لنفسه سفيرًا لإسرائيل في الأمم المتحدة من 1984 إلى 1988، اُشتهر على نطاق واسع من خلال قيادة المعارضة لاتفاقيات أوسلو، وهي خطة عام 1993 للمصالحة الإسرائيلية الفلسطينية التي وقعتها الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وبعد اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1995 على يد متعصب إسرائيلي يميني متطرف، وبعد موجة من الهجمات الإرهابية الفلسطينية على المدن الإسرائيلية، تمكن نتنياهو من هزيمة شمعون بيريز، المهندس الرئيس لاتفاق أوسلو للسلام، بفارق ضئيل للغاية في سباق رئاسة الوزراء عام 1996، وفور وصوله إلى منصبه، وعد بإبطاء عملية السلام وإصلاح المجتمع الإسرائيلي من خلال «استبدال النخب»، التي اعتبرها ضعيفة وذات ميل إلى تقليد الليبراليين الغربيين، بالمحافظين الدينيين والاجتماعيين.

إلا أن طموحات نتنياهو المتطرفة قوبلت بمعارضة مشتركة من جانب النخب القديمة وإدارة كلينتون. كما أن المجتمع الإسرائيلي، الذي كان آنذاك ما يزال يدعم بشكل عام اتفاقية السلام، سرعان ما توتر بشأن الأجندة المتطرفة لرئيس الوزراء. وبعد ثلاث سنوات، أطاح به الليبرالي إيهود باراك، الذي تعهد بمواصلة عملية أوسلو وحل القضية الفلسطينية برمتها. لكن باراك فشل، كما فشل خلفاؤه. فحين أكملت إسرائيل انسحابها الأحادي من جنوب لبنان في ربيع عام 2000، تعرضت لهجمات عبر الحدود، وتعرضت للتهديد بسبب الحشد الهائل لحزب الله.

وانهارت عملية السلام عندما أطلق الفلسطينيون الانتفاضة الثانية في خريف عام 2000، وبعد مرور خمس سنوات، مهّد انسحاب إسرائيل من قطاع غزة الطريق أمام حماس لتولي زمام الأمور هناك. فقد الجمهور الإسرائيلي، الذي كان مؤيدًا لعملية السلام ذات يوم، شهيته للمخاطر الأمنية التي تصاحب ذلك. «لقد عرضنا عليهم القمر والنجوم، وحصلنا في المقابل على انتحاريين وصواريخ»، هكذا كانت العبارة الشائعة. (لم تجد الحجة المضادة صدى يذكر والقائلة إن إسرائيل عرضت أقل مما ينبغي، وأنها لن توافق أبدًا على دولة فلسطينية مستدامة). عاد نتنياهو إلى السلطة في عام 2009، وهو يشعر بأن ما وعد به قد تحقق، ففي نهاية المطاف، وأصبحت تحذيراته ضد التنازلات الإقليمية لجيران إسرائيل حقيقة.

وبعد عودته إلى منصبه، عرض نتنياهو على الإسرائيليين بديلًا مناسبًا لصيغة «الأرض مقابل السلام» التي فقدت مصداقيتها الآن. وقال إن إسرائيل يمكن أن تزدهر كدولة على النمط الغربي، بل وتتواصل مع العالم العربي ككل، بينما تدفع الفلسطينيين خارج الصورة. وكان المفتاح هو فرق تسد. وحافظ نتنياهو في الضفة الغربية على التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية، التي أصبحت بحكم الأمر الواقع المقاول الفرعي للخدمات الشرطية والاجتماعية في إسرائيل، وشجّعت قطر على تمويل حكومة حماس في قطاع غزة. وقال نتنياهو للتجمع البرلماني لحزبه في عام 2019: «من يعارض قيام دولة فلسطينية عليه أن يدعم توصيل الأموال إلى قطاع غزّة لأن الحفاظ على الفصل بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في قطاع غزة سيمنع إقامة دولة فلسطينية». وهو الإعلان الذي عاد ليطارده.

اعتقد نتنياهو أنه قادر على إبقاء قدرات حماس تحت السيطرة من خلال الحصار البحري والاقتصادي، وأنظمة الدفاع الصاروخية والحدودية المنشورة حديثًا، والغارات العسكرية الدورية على مقاتلي الجماعة وبنيتها التحتية. وأصبح هذا التكتيك الأخير، الذي أطلق عليه اسم «جزّ العشب»، جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الأمنية الإسرائيلية، إلى جانب «إدارة الصراع» والحفاظ على الوضع الراهن. واعتقد نتنياهو أن النظام القائم كان دائمًا ومن وجهة نظره، هو الأمثل: فالحفاظ على صراع منخفض المستوى للغاية أقل خطورة من الناحية السياسية من اتفاق السلام وأقل تكلفة من حرب كبرى.

ولأكثر من عقد من الزمان، بدا أن إستراتيجية نتنياهو ناجحة، فقد غرق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في ثورات الربيع العربي وحروبه الأهلية، الأمر الذي جعل القضية الفلسطينية أقل بروزًا بكثير. وتراجعت الهجمات الإرهابية إلى مستويات منخفضة جديدة، وعادة ما يتم اعتراض إطلاق الصواريخ من قطاع غزّة بين الحين والآخر. وباستثناء حرب قصيرة ضد حماس في عام 2014، نادرًا ما احتاج الإسرائيليون إلى المواجهة المباشرة مع المسلحين الفلسطينيين. كان الصراع بالنسبة لمعظم الناس، في معظم الأوقات، بعيدًا عن العين وبعيدًا عن العقل.

آثار الدمار في غزّة إثر القصف الإسرائيليّ (Getty)

وبدلًا من القلق بشأن الفلسطينيين، بدأ الإسرائيليون في التركيز على عيش الحلم الغربي المتمثل في الرخاء والهدوء. بين يناير/كانون الثاني 2010 وديسمبر/كانون الأول 2022، تضاعفت أسعار العقارات في إسرائيل، حيث امتلأ خط أفق تل أبيب بالشقق الشاهقة ومجمعات المكاتب. توسعت المدن الصغيرة لاستيعاب الطفرة. نما الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل بأكثر من 60 في المئة، حيث أطلق رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا أعمالًا ناجحة، واكتشفت شركات الطاقة رواسب غاز طبيعي بحرية في المياه الإسرائيلية. وحولت اتفاقيات الأجواء المفتوحة مع حكومات أخرى السفر إلى الخارج، وهو وجه رئيسي لنمط الحياة الإسرائيلي، إلى سلعة رخيصة. بدا المستقبل مشرقًا، وأن إسرائيل قد تجاوزت الفلسطينيين، وقد فعلت ذلك دون التضحية بأي شيء، لا الأراضي ولا الموارد ولا الأموال، في سبيل التوصل إلى اتفاق سلام. ظن الإسرائيليون أنهم كسبوا كل شيء.

كانت إسرائيل على المستوى الدولي مزدهرة أيضًا، إذ قاوم نتنياهو الضغوط التي مارسها الرئيس الأميركي باراك أوباما لإحياء حل الدولتين وتجميد المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وذلك جزئيًا من خلال تشكيل تحالف مع الجمهوريين. وعلى الرغم من فشل نتنياهو في منع أوباما من إبرام اتفاق نووي مع إيران، إلا أن واشنطن انسحبت من الاتفاق بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة. كما نقل ترامب السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، واعترفت إدارته بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان من سوريا. ساعدت الولايات المتحدة في عهد ترامب إسرائيل على إبرام الاتفاقيات الإبراهيمية، وتطبيع علاقاتها مع البحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة، وهو الاحتمال الذي بدا مستحيلًا في السابق دون اتفاق سلام إسرائيلي-فلسطيني. وبدأت طائرات محملة بالمسؤولين والقادة العسكريين والسياح الإسرائيليين في التردد على الفنادق الفخمة في مشيخات الخليج وأسواق مراكش.

عمل نتنياهو أيضًا، مع تهميشه للقضية الفلسطينية، على إعادة تشكيل المجتمع الداخلي في إسرائيل. وبعد فوزه المفاجئ بإعادة انتخابه في عام 2015، شكّل ائتلاف يميني لإحياء حلمه القديم بإشعال ثورة محافظة. ومرة أخرى، بدأ رئيس الوزراء في مهاجمة «النخب» وبدأ حربًا ثقافية ضد المؤسسة السابقة، التي اعتبرها معادية له وليبرالية للغاية بالنسبة لمؤيديه. وفي عام 2018، فاز بتمرير قانون رئيس مثير للجدل يعرف إسرائيل بأنها «الدولة القومية للشعب اليهودي» وأعلن أن اليهود لديهم الحق «الفريد» في «ممارسة تقرير المصير» على أراضيها. لقد أعطى هذا القانون الأغلبية اليهودية في إسرائيل الأولوية، وأخضع السكان غير اليهود.

انهار ائتلاف نتنياهو في العام نفسه، ثم غرقت إسرائيل في أزمة سياسية طويلة، حيث مرّت بخمسة انتخابات بين عامي 2019 و2022، وكانت كل منها عبارة عن استفتاء على حكم نتنياهو. وتفاقمت حدة المعركة السياسية بسبب قضية الفساد المرفوعة ضد رئيس الوزراء، مما أدى إلى توجيه اتهامات جنائية له في عام 2020 ومحاكمته مستمرة. انقسمت إسرائيل بين «البيبيين» و«غير البيبيبن». («بيبي» هو لقب نتنياهو). وفي الانتخابات الرابعة، في عام 2021، تمكن خصوم نتنياهو أخيرًا من استبداله بـ«حكومة تغيير» بقيادة اليميني نفتالي بينيت ويائير لابيد الوسطي، ولأول مرة ضم الائتلاف حزبًا عربيًا.

ومع ذلك، فإن معارضة نتنياهو لم تتحدَّ قط الفرضية الأساسية لحكمه: وهي أن إسرائيل يمكن أن تزدهر من دون معالجة القضية الفلسطينية. وأصبح الجدل حول السلام والحرب، الذي كان في العادة موضوعًا سياسيًا حاسمًا بالنسبة لإسرائيل، من الأخبار في الصفحات الخلفية. وقد شبّه بينيت، الذي بدأ حياته المهنية مساعدًا لنتنياهو، الصراع الفلسطيني بـ «شظية في المؤخرة» يمكن للبلاد أن تتعايش معها. لقد سعى هو ولابيد إلى الحفاظ على الوضع الراهن تجاه الفلسطينيين والتركيز ببساطة على إبقاء نتنياهو خارج منصبه.

آثار الدمار في غزّة إثر القصف الإسرائيليّ (Getty)

وبطبيعة الحال، ثبت أن هذه الحل مستحيلًا. انهارت «حكومة التغيير» في عام 2022 بعد أن فشلت في إطالة أمد الأحكام القانونية الغامضة التي تسمح لمستوطني الضفة الغربية بالتمتع بحقوقهم المدنية التي يُحرم منها جيرانهم غير الإسرائيليين. بالنسبة لبعض أعضاء التحالف العربي، كان التوقيع على أحكام الفصل العنصري هذه بمثابة تضحية لا يمكن تقديمها.

وبالنسبة لنتنياهو، الذي يواجه المحاكمة، كان انهيار الحكومة هو بالضبط ما يأمل فيه. وبينما نظمت إسرائيل انتخابات أخرى، حصَّن قاعدته من اليمينيين واليهود المتشددين واليهود المحافظين اجتماعيًا. ومن أجل استعادة السلطة، تواصل بشكل خاص مع مستوطني الضفة الغربية، وهم الفئة الديموغرافية التي ما زالت تنظر إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني باعتباره سبب وجودها. وظل هؤلاء الصهاينة المتدينون ملتزمين بحلمهم بتهويد الأراضي المحتلة، وجعلها جزءًا رسميًا من إسرائيل. وكانوا يأملون أنه إذا أتيحت لهم الفرصة، فسيتمكنون من طرد السكان الفلسطينيين من الضفة الغربية. لقد فشلوا في منع إجلاء المستوطنين اليهود من غزة في عام 2005 عندما كان آرييل شارون رئيسًا للوزراء، ولكن في السنوات التي تلت ذلك، استولوا تدريجيًا على مناصب رئيسة في الجيش الإسرائيلي والخدمة المدنية ووسائل الإعلام مع تحول تركيز أعضاء المؤسسة العلمانية على كسب المال في القطاع الخاص.

كان لدى المتطرفين مطلبان رئيسان من نتنياهو. الأول، والأكثر وضوحًا، هو توسيع المستوطنات اليهودية. أما الهدف الثاني فهو إقامة وجود يهودي أقوى في جبل الهيكل، الموقع التاريخي لكل من الهيكل اليهودي والمسجد الأقصى الإسلامي في البلدة القديمة بالقدس. منذ أن سيطرت إسرائيل على المنطقة المحيطة في حرب الأيام الستة عام 1967، منحت الفلسطينيين حكمًا شبه-ذاتي على المسجد، خوفًا من أن يؤدي إخراجه من الحكم العربي إلى صراع ديني كارثي. لكن اليمين المتطرف الإسرائيلي سعى منذ فترة طويلة إلى تغيير هذه المعادلة. عندما اُنتخب نتنياهو لأول مرة في عام 1996، فتح جدار في موقع أثري في نفق تحت الأرض مجاور للأقصى لكشف آثار من زمن الهيكل الثاني، مما أدى إلى انفجار عنيف للاحتجاجات العربية في القدس. وعلى نحو مماثل، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام 2000 بعد زيارة نظمها شارون إلى الحرم القدسي، وكان آنذاك بصفته زعيمًا للمعارضة ورئيسًا لحزب نتنياهو، الليكود.

وفي مايو 2021، اندلع العنف مرة أخرى. هذه المرة، كان المحرض الرئيسي هو إيتمار بن غفير، وهو سياسي يميني متطرف احتفل علنًا بالإرهابيين اليهود. افتتح بن جفير «مكتبًا برلمانيًا» في حي فلسطيني بالقدس الشرقية حيث قام المستوطنون اليهود، باستخدام سندات الملكية القديمة، بطرد بعض السكان، ونظم الفلسطينيون احتجاجات حاشدة ردًا على ذلك. وبعد تجمع مئات المتظاهرين في الأقصى، داهمت الشرطة الإسرائيلية مجمع المسجد. ونتيجة لذلك، اندلع القتال بين العرب واليهود وسرعان ما انتشر إلى المدن المختلطة عرقيًا في جميع أنحاء إسرائيل. واستخدمت حماس الغارة ذريعةً لاستهداف القدس بالصواريخ، الأمر الذي أدى إلى المزيد من العنف في إسرائيل وجولة أخرى من الأعمال الانتقامية الإسرائيلية في غزة.

ومع ذلك، فقد تلاشى القتال عندما توصلت إسرائيل وحماس إلى وقف جديد لإطلاق النار في ترتيب سريع ومثير للصدمة. وواصلت قطر دفعاتها، وأعطت إسرائيل تصاريح عمل لبعض سكان غزة لتحسين اقتصاد القطاع وتقليل رغبة السكان في الصراع. وقفت حماس موقف المتفرج عندما ضربت إسرائيل ميليشيا متحالفة معها، وهي حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، في ربيع عام 2023. وقد سمح الهدوء النسبي على طول الحدود للجيش الإسرائيلي بإعادة انتشار قواته ونقل معظم الكتائب القتالية إلى الضفة الغربية، حيث يمكنها حماية المستوطنين من الهجمات الإرهابية. وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول، أصبح من الواضح أن عمليات إعادة الانتشار هذه كانت بالضبط ما أراده السنوار.

انقلاب بيبي

استعاد نتنياهو السلطة في الانتخابات الإسرائيلية التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. فقد حصل ائتلافه على 64 مقعدًا من مقاعد البرلمان الإسرائيلي البالغ عددها 120 مقعدًا، وهو فوز ساحق وفقًا للمعايير الحديثة. وكانت الشخصيات الرئيسة في الحكومة الجديدة هي بتسلئيل سموتريش، زعيم حزب ديني قومي يمثل مستوطني الضفة الغربية، وبن غفير. ومن خلال العمل مع الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة، وضع نتنياهو وسموتريش وبن غفير مخططًا لإسرائيل الأوتوقراطية والثيوقراطية. على سبيل المثال، أعلنت المبادئ التوجيهية للحكومة الجديدة أن «للشعب اليهودي حقًا حصريًا وغير قابل للتصرف في أرض إسرائيل بأكملها»، وهو ما ينكر تمامًا أي مطالبة فلسطينية بالأرض، حتى في قطاع غزّة. عُيّن سموتريتش وزيرًا للمالية ومسؤولًا عن الضفة الغربية، حيث بدأ برنامجًا ضخمًا لتوسيع المستوطنات اليهودية. وعُيّن بن غفير وزيرًا للأمن القومي، ومسؤولًا عن الشرطة والسجون. استخدم سلطته لتشجيع المزيد من اليهود على زيارة جبل الهيكل (الأقصى). بين يناير/كانون الثاني وأكتوبر/تشرين الأول من عام 2023، قام حوالي 50,000 يهودي بجولة فيه/ أكثر من أي فترة مماثلة أخرى مسجلة (في عام 2022، بلغ الرقم 35,000 زائرًا يهوديًا).

رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو (Getty)

وأثارت حكومة نتنياهو المتطرفة الجديدة الغضب بين الليبراليين والوسطيين الإسرائيليين. ولكن على الرغم من أن إذلال الفلسطينيين كان محوريًا في أجندتهم، إلا أن هؤلاء المنتقدين استمروا في تجاهل مصير الأراضي المحتلة والأقصى عندما أدانوا الحكومة. وركزوا إلى حد كبير على إصلاحات نتنياهو القضائية. من شأن هذه القوانين المقترحة، التي أُعلن عنها في يناير/كانون الثاني 2023، أن تحد من استقلال المحكمة العليا في إسرائيل، وهي الوصية على الحقوق المدنية وحقوق الإنسان في بلد يفتقر إلى دستور رسمي، وتُفكّكُ النظام الاستشاري القانوني الذي يوفر الضوابط والتوازنات على السلطة التنفيذية. ولو أُقرّت، لكانت مشاريع القوانين قد جعلت من الأسهل بكثير على نتنياهو وشركائه بناء حكم أوتوقراطي، وربما كانت ستعفيه من محاكمة الفساد.

لا شك أن مشاريع القوانين المتعلقة بالإصلاح القضائي كانت خطيرة للغاية. لقد أثاروا، بحق، موجة هائلة من الاحتجاجات، حيث تظاهر مئات الآلاف من الإسرائيليين كل أسبوع. ولكن في مواجهة هذا الانقلاب، تصرف معارضو نتنياهو مرة أخرى وكأن الاحتلال قضية غير ذات أهمية. وعلى الرغم من أن القوانين صِيغت جزئيًا لإضعاف أي حماية قانونية قد تمنحها المحكمة العليا الإسرائيلية للفلسطينيين، فقد تجنب المتظاهرون ذكر الاحتلال أو عملية السلام البائدة خوفًا من تشويه سمعتهم على أنهم غير وطنيين. في الواقع، عمل المنظمون على تهميش المتظاهرين الإسرائيليين المناهضين للاحتلال لتجنب ظهور صور الأعلام الفلسطينية في المظاهرات. ونجح هذا التكتيك في ضمان عدم «تلوث» حركة الاحتجاج بالقضية الفلسطينية: إذ امتنع العرب الإسرائيليون، الذين يشكلون نحو 20% من سكان إسرائيل، إلى حد كبير عن الانضمام إلى المظاهرات. لكن هذا جعل من الصعب على الحركة أن تنجح. ونظرًا للتركيبة السكانية في إسرائيل، يحتاج يهود يسار الوسط إلى الشراكة مع العرب في إسرائيل إذا كانوا يريدون تشكيل حكومة. ومن خلال نزع الشرعية عن مخاوف عرب إسرائيل، أدّى المتظاهرون دورًا مباشرًا في إستراتيجية نتنياهو.

ومع خروج العرب، استمرت المعركة حول الإصلاحات القضائية وكأنها شأن يهودي داخلي. واعتمد المتظاهرون علم نجمة داود باللونين الأزرق والأبيض، وكان العديد من قادتهم ومتحدثيهم من كبار ضباط الجيش المتقاعدين. وأظهر المتظاهرون مؤهلاتهم العسكرية، مما عكس التراجع في هيبة الجيش الإسرائيلي التي ظلت بقيت منذ غزو لبنان في عام 1982. وهدد طيارو الاحتياط، الذين يؤدّون دورًا حاسمًا في جاهزية القوات الجوية وقوتها القتالية، بالانسحاب من الخدمة إذا أُقرّت القوانين. وفي استعراض للمعارضة المؤسسية، رفض قادة الجيش الإسرائيلي طلب نتنياهو بتأديب جنود الاحتياط.

ولم يكن من المستغرب أن ينفصل الجيش الإسرائيلي عن رئيس الوزراء. اشتبك نتنياهو طوال حياته المهنية الطويلة، بشكل متكرر مع الجيش، وكان أقوى منافسيه هم الجنرالات المتقاعدون الذين أصبحوا سياسيين، مثل شارون ورابين وباراك، ناهيك عن بيني غانتس، الذي جعله نتنياهو جزءًا من حكومة طوارئ الحرب، لكنه قد يتحداه في نهاية المطاف ويخلفه رئيسًا للوزراء. لقد رفض نتنياهو منذ فترة طويلة رؤية الجنرالات بأن تكون إسرائيل قوية عسكريًا ومرنة دبلوماسيًا. وسَخِر أيضًا من شخصياتهم، التي اعتبرها خجولة، وعديمة الخيال، بل وتخريبية أحيانًا. لذلك لم يُصدَم أحد عندما أقال وزير دفاعه، الجنرال المتقاعد يوآف غالانت، بعد ظهور غالانت على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون في مارس 2023 للتحذير من أن الانقسامات في إسرائيل تركتها عرضة للخطر وأن الحرب وشيكة.

أب وابنه ينزحون باتّجاه رفح في قطاع غزّة (Getty)

وأدت إقالة غالانت إلى مزيد من الاحتجاجات العفوية في الشوارع، وأعاد نتنياهو تعيينه في منصبه. (يظلان خصمين لدودين، حتى وهما يديران الحرب معًا)، إلا إن نتنياهو تجاهل تحذير غالانت، كما تجاهل تحذيرًا أكثر تفصيلًا قدمه في يوليو/تموز كبير محللي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بأن الأعداء قد يضربون إسرائيل. يبدو أن نتنياهو اعتقد أن مثل هذه التحذيرات كانت ذات دوافع سياسية وتعكس تحالفًا ضمنيًا بين القادة العسكريين الحاليين في مقر الجيش الإسرائيلي في تل أبيب والقادة السابقين الذين كانوا يحتجون عبر الشارع.

من المؤكد أن التحذيرات التي تلقاها نتنياهو ركزت في أغلبها على شبكة إيران من الحلفاء الإقليميين، وليس على حماس. وعلى الرغم من أن خطة هجوم حماس كانت معروفة لدى المخابرات الإسرائيلية، وعلى الرغم من أن المجموعة مارست مناورات أمام مراكز المراقبة التابعة للجيش الإسرائيلي، إلا أن كبار المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين فشلوا في تصور أن خصمهم في غزة قادر على المضي قدمًا بالفعل، وقاموا بإخفاء الاقتراحات التي تشير إلى عكس ذلك. كان هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، جزئيًا، فشل للبيروقراطية الإسرائيلية.

ومع ذلك فإن حقيقة أن نتنياهو لم يعقد أي مناقشات جادة بشأن المعلومات الاستخبارية التي تلقاها أمر لا يمكن الدفاع عنه، وكذلك رفضه التوصل إلى تسوية جدية مع المعارضة السياسية ورأب الصدع في إسرائيل. بل إنه قرر المضي قدمًا في انقلابه القضائي، بغض النظر عن التحذيرات الخطيرة والردود السلبية المحتملة. وأعلن بغطرسة أن «إسرائيل تستطيع الاستغناء عن سربين من سلاح الجو، ولكن ليس عن الحكومة».

وأقر البرلمان الإسرائيلي في يوليو/تموز 2023 أول قانون قضائي، في نقطة مهمة أخرى لنتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف. (أبطلته المحكمة العليا نهاية في يناير/كانون الثاني 2024). واعتقد رئيس الوزراء أنه سيرفع من مكانته قريبًا من خلال إبرام اتفاق سلام مع المملكة العربية السعودية، أغنى وأهم دولة عربية، كجزء من صفقة ثلاثية تهدف إلى تحقيق السلام عبر اتفاقية دفاع أميركية سعودية. وكانت لتكون النتيجة نصرًا مهيبًا للسياسة الخارجية الإسرائيلية: تحالف أميركي عربي إسرائيلي ضد إيران ووكلائها الإقليميين. كان ذلك إنجاز كبير بالنسبة لنتنياهو وسيجعله محبوبًا لدى التيار الشعبي في إسرائيل.

كان رئيس الوزراء واثقًا من نفسه لدرجة أنه صعد في 22 سبتمبر/أيلول على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة للترويج لخريطة «الشرق الأوسط الجديد» التي تتمحور حول إسرائيل. وكان ذلك بمثابة انتقاد متعمد لمنافسه الراحل بيريز، الذي صاغ هذه العبارة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو. «أعتقد أننا على أعتاب اختراق أكثر دراماتيكية: سلام تاريخي مع المملكة العربية السعودية»، تفاخر نتنياهو في خطابه. وأوضح أن الفلسطينيين أصبحوا مجرد فكرة ثانوية لكل من إسرائيل والمنطقة الأوسع. وقال: «لا يشكل الفلسطينيون سوى 2% من العالم العربي، ولا يجب أن نعطيهم حق النقض على معاهدات السلام الجديدة». وبعد أسبوعين، شنت حماس هجومًا أدى إلى تحطيم خطط نتنياهو.

بعد الانفجار

حاول نتنياهو وأنصاره إلقاء اللوم عنه في أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، وحاجوّا بأن رئيس الوزراء قد ضُللّ على أيدي رؤساء الأجهزة الأمنية والمخابرات الذين فشلوا في إطلاعه على تنبيه في اللحظة الأخيرة حول حدوث أمر مريب في قطاع غزّة (على الرغم من أن هذه ا المعلومات الاستخباراتية كانت تعتقد أن حماس ستقوم بهجومٍ صغيرٍ، أو ستحدث إزعاجًا دون هجومٍ). وكتب مكتب نتنياهو على تويتر بعد عدة أسابيع من الهجوم: «لم يُحذَّر رئيس الوزراء نتنياهو تحت أي ظرف من الظروف وفي أي مرحلة حول نيات حماس الحربية. على العكس من ذلك، أشار تقييم المستوى الأمني بأكمله، بما في ذلك رئيس المخابرات العسكرية ورئيس الشاباك، إلى أن حماس مردوعة وتسعى إلى تسوية». (واعتذر لاحقًا عن هذا المنشور).

إلا إن العجز العسكري والاستخباراتي، على الرغم من جسامته، لا يمكن أن يحمي رئيس الوزراء من الخطيئة، وليس فقط لأن رئيس للحكومة يتحمل المسؤولية النهائية عما يحدث في إسرائيل، بل لأن سياسته المتهورة التي اتبعها قبل الحرب والتي كانت تهدف إلى تقسيم الإسرائيليين جعلتها عرضة للخطر، وأغرت حلفاء إيران بضرب مجتمع ممزق. لقد ساعد إذلال نتنياهو للفلسطينيين على ازدهار التطرف. وليس من قبيل الصدفة أن حماس أطلقت على عمليتها اسم «طوفان الأقصى» وصورت الهجمات على أنها جاءت لحماية الأقصى من الاستيلاء اليهودي. واعتبرت حماية الموقع الإسلامي المقدس سببًا لمهاجمة إسرائيل ومواجهة العواقب الوخيمة الحتمية لهجوم مضاد للجيش الإسرائيلي.

ولم يعفِ الجمهور الإسرائيلي نتنياهو من المسؤولية عما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول. فقد تراجع حزب رئيس الوزراء في استطلاعات الرأي، كما انخفضت معدلات تأييده أيضًا، على الرغم من احتفاظ الحكومة بأغلبية برلمانية. يتم التعبير عن رغبة إسرائيل في التغيير في أكثر من مجرد استطلاعات الرأي العام. لقد عادت النزعة العسكرية إلى الواجهة. وهرع المتظاهرون المناهضون لبيبي إلى أداء واجباتهم الاحتياطية على الرغم من الاحتجاجات، حيث حل المنظمون السابقون المناهضون لنتنياهو محل الحكومة الإسرائيلية المختلة في رعاية الأشخاص الذين أُجلُوا من جنوب إسرائيل وشمالها. وسلّح العديد من الإسرائيليين أنفسهم بالمسدسات والبنادق الهجومية، بمساعدة حملة بن غفير لتسهيل تنظيم الأسلحة الصغيرة الخاصة. وبعد عقود من التراجع التدريجي، من المتوقع أن ترتفع ميزانية الدفاع بنحو 50%.

هذه التغييرات، رغم كونها مفهومة، فهي عبارة عن تسارعات، وليست تحولات، حيث ما تزال إسرائيل تتبع المسار نفسه الذي قادها إليه نتنياهو لسنوات. وأصبحت هويتها الآن أقل ليبرالية ومساواة، وأكثر إثنية وعسكرية. إن شعار «متحدون من أجل النصر»، الذي نشاهده في كل زاوية من الشوارع، وفي الحافلات العامة، وقنوات التلفزيون في إسرائيل، يهدف إلى توحيد المجتمع اليهودي في إسرائيل. وقد منعت الشرطة الأقلية العربية في الدولة، التي أيدت بأغلبية ساحقة وقف إطلاق النار السريع وتبادل الأسرى، من تنظيم احتجاجات عامة مرة بعد مرة. وُجهت اتهامات قانونية لعشرات المواطنين العرب بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي عبرت عن تضامنهم مع الفلسطينيين في قطاع غزّة، حتى لو لم تدعم المنشورات أو تؤيد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول. يشعر العديد من اليهود الإسرائيليين الليبراليين في الوقت نفسه بالخيانة من نظرائهم الغربيين الذين وقفوا إلى جانب حماس من وجهة نظرهم. وهم يعيدون النظر في تهديداتهم قبل الحرب بالهجرة بعيدًا عن استبداد نتنياهو الديني، وتتوقع شركات العقارات الإسرائيلية موجة جديدة من المهاجرين اليهود الساعين إلى الهروب من معاداة السامية المتزايدة التي شهدوها في الخارج.

وكما كان الحال في أوقات ما قبل الحرب، لا يفكر أي يهودي إسرائيلي تقريبًا في كيفية حل الصراع الفلسطيني سلميًا. أما اليسار الإسرائيلي، الذي كان مهتمًا تقليديًا بالسعي إلى تحقيق السلام، فقد أصبح الآن على وشك الانقراض. ويبدو أن حزبي غانتس ولابيد الوسطيين، اللذين يشعران بالحنين إلى إسرائيل ما قبل نتنياهو، يشعران بأنهما في بيتهما في المجتمع العسكري الجديد ولا يريدان المخاطرة بشعبيتهما السائدة من خلال تأييد مفاوضات الأرض مقابل السلام. وأصبح اليمين أكثر عداءً للفلسطينيين من أي وقت مضى.

وقد ساوى نتنياهو بين السلطة الفلسطينية وحماس، وحتى كتابة هذه السطور، رفض المقترحات الأميركية لجعلها حاكمة غزة بعد الحرب، مع العلم أن مثل هذا القرار من شأنه إحياء حل الدولتين. يريد رفاق رئيس الوزراء من اليمين المتطرف إخلاء قطاع غزّة من سكانه ونفي الفلسطينيين إلى بلدان أخرى، مما سيخلق نكبة ثانية من شأنها أن تترك الأرض مفتوحة أمام مستوطنات يهودية جديدة. ولتحقيق هذا الحلم، طالب بن غفير وسموتريتش نتنياهو برفض أي نقاش حول ترتيبات ما بعد الحرب في القطاع يترك للفلسطينيين المسؤولية وطالبوا الحكومة برفض التفاوض من أجل إطلاق سراح المزيد من الرهائن الإسرائيليين. كما حرصوا على عدم قيام إسرائيل بأي شيء لوقف الهجمات الجديدة التي يشنها المستوطنون اليهود على السكان العرب في الضفة الغربية.

وإذا كان لنا أن نتعلم من الماضي، لا يجب أن نفقد الأمل في إسرائيل، إذ يشير التاريخ إلى وجود فرصة لعودة التقدمية وفقدان المحافظين لنفوذهم. فبعد الهجمات الكبرى السابقة، تحول الرأي العام الإسرائيلي في البداية نحو اليمين، ولكنه غير مساره بعد ذلك وقَبِل التنازلات الإقليمية في مقابل السلام. أدت حرب الأيام الستة عام 1973 في النهاية إلى السلام مع مصر، وأدت الانتفاضة الأولى، التي بدأت عام 1987، إلى اتفاقيات أوسلو والسلام مع الأردن، وانتهت الانتفاضة الثانية، التي اندلعت عام 2000، بالانسحاب الأحادي الجانب من غزة.

بيد إن فرص تكرار هذه الدينامية مخفضة للغاية، إذ لا توجد جماعة أو زعيم فلسطيني تقبله إسرائيل كما كانت مصر ورئيسها بعد عام 1973. حماس ملتزمة بتدمير إسرائيل، والسلطة الفلسطينية ضعيفة. وإسرائيل أيضًا ضعيفة: فقد بدأت وحدتها في زمن الحرب تتصدع بالفعل، والاحتمالات مرتفعة في أن تمزق إسرائيل نفسها أكثر إذا تراجع القتال. ويأمل المناهضون للبيبيّين في التواصل مع البيبيّيين الخائبين وفرض انتخابات مبكرة هذا العام. سيثير نتنياهو بدوره المخاوف ويتدخل. اقتحم أقارب الرهائن في يناير/كانون الثاني اجتماعًا برلمانيًا لمطالبة الحكومة بمحاولة إطلاق سراح أفراد أسرهم، وهو جزء من معركة بين الإسرائيليين حول ما إذا كان ينبغي لإسرائيل إعطاء الأولوية لهزيمة حماس أو التوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح الأسرى المتبقين. ولعل الفكرة الوحيدة التي يتوحد حولها الإسرائيليون هي معارضة اتفاقية الأرض مقابل السلام. يتفق معظم اليهود الإسرائيليين بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول على أن أي تنازل آخر عن الأراضي سيمنح المسلحين نقطة انطلاق للمذبحة التالية.

قد يبدو مستقبل إسرائيل مشابهًا إلى حد كبير لتاريخها الحديث في النهاية. مع نتنياهو أو بدونه، ستظل «إدارة الصراع» وسياسة «جزّ العشب» سياسة الدولة، وهو ما يعني المزيد من الاحتلال والمستوطنات والتهجير. وقد تبدو هذه الإستراتيجية الخيار الأقل خطورة، على الأقل بالنسبة للشعب الإسرائيلي الذي تأثر بأهوال السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والذي أصم أذنيه عن اقتراحات السلام الجديدة. لكن ذلك لن يؤدي إلا إلى المزيد من الكوارث. ولا يمكن للإسرائيليين أن يتوقعوا الاستقرار إذا استمروا في تجاهل الفلسطينيين ورفض تطلعاتهم، وقصتهم، بل وحتى وجودهم. وهذا هو الدرس الذي كان يتعين على إسرائيل أن تتعلمه من تحذير ديان القديم. ويجب على الإسرائيليين أن يمدّوا يدهم للفلسطينيين ولبعضهم البعض إذا كانوا يريدون تعايشًا حقيقيًا وكريمًا.

** المقال مترجم عن موقع “فورين أفيرز”


إحالات:

[1] لا يوجد ما يشير بوضوح إلى أن الخطة تعود للسنوار فقط (المُترجم).

[2] يستخدم الكاتب كلمة الضعيفة لإعطاء إسرائيل صفة الضحية، وعدم منح الهجوم أو المنفذين أو الفلسطينيين عمومًا أي أفضلية (المُترجم).

[3] ادعاءات كاذبة ثبت دحضها (المُترجم).

[4] قدم نتنياهو للكابينت المصغر وثيقة تخص وضع قطاع غزّة بعد الحرب في تاريخ 23 فبراير/شباط 2024.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *