Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

هل يعود إسماعيل إلى أمّه زاهرة؟

فتًى فلسطينيّ بين أنقاض القصف الإسرائيليّ شماليّ قاع غزّة، 24/11 | عمر القطّاع.

 

هذه القصّة واقعيّة، وأيّ تشابه بينها وبين قصّة أخرى فهو ليس بمحض الصدفة، وإنّما بمحض الموت ومحاولات النجاة.

ستّون يومًا من العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة، خلّف أكثر من ثلاثين ألف شهيد، وخمسين ألف جريح، وأكثر من مليون وسبعمئة ألف نازح انتقلوا من منطقة الموت المحتّم، إلى منطقة الموت البطيء، فبعد أن اجتاح جيش الاحتلال شمال قطاع غزّة ووسطها، توجّه اليوم نحو الجنوب ليدمّر ويقتل مَنْ يجري نحو بصيص حياة لا أمل.

إسماعيل، يبلغ من العمر ستّة عشر عامًا، يتيم الأب، ثالث أحفاد عائلته، كان يحلم بأن يكون ’يوتيوبر‘ مشهورًا، يقدّم محتوًى عن ألعاب الفيديو، وعن حياة الريف الّتي يعيشها وترعرع عليها، هو ابن مدينة في الأصل، وبما أنّ كلّ فلسطينيّ فلّاح في أصله، حسّ إسماعيل بأنّ جذور الزيتون نادته، وتوجّه هناك بأظافره حافرًا أرضًا يابسة، زرع فيها طموحًا وأحلامًا نبتت قليلًا إلى أن اقتلعها صاروخ وجنزير دبّابة.

سماعيل، يبلغ من العمر ستّة عشر عامًا، يتيم الأب، ثالث أحفاد عائلته، كان يحلم بأن يكون ’يوتيوبر‘ مشهورًا، يقدّم محتوًى عن ألعاب الفيديو، وعن حياة الريف…

مع بدء العدوان على قطاع غزّة، وبعد مرور ثلاثة أيّام على عمليّة «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، وبينما كان إسماعيل نائمًا في صالون منزله الكائن في شمال قطاع غزّة، تلّة قليبو، قصف جيش الاحتلال غرفته المجاورة للصالون الساعة الثانية بعد الفجر. نجا إسماعيل وأسرته بأعجوبة، وتوجّهوا فجرًا نحو منزل جيرانهم، ومن ثَمّ بعد أن تنفّس وجه الله صباحًا، سارعوا بالهرب إلى منزل جدّهم القريب من الشيخ زايد شماليّ قطاع غزّة، والركض نحو بيت الجدّ، هو سؤال ناعم بأن “لا أغلى من الولد سوى وِلد الولد”، هذا مثل شعبيّ حمل إسماعيل وأسرته نحو الجدّ والجدّة، إلّا أنّ الاحتلال يهاجم كلّ ما هو ومَنْ هو فلسطينيّ. قُصِف منزل الجدّ بعد أسبوع، ونجوا من الموت بأعجوبة؛ لأنّ الاحتلال كتب عليهم المعاناة إلى حين قيامة، وهم أنبياء الضعف، بمحاولات الحياة.

هرب إسماعيل رفقة جدّه وأسرته إلى منطقة الفالوجة في جباليا شمال قطاع غزّة، مكثوا هناك حتّى تاريخ الخامس والعشرين من تشرين الأوّل (أكتوبر)؛ أي بعد مرور ثمانية عشر يومًا على بدء العدوان، رافضين النزوح نحو الجنوب، على الرغم من تهديدات الاحتلال، مؤكّدين عدم تكرار تجربة الهجرة والبكاء في الخلاء وطوابير المنظّمات الدوليّة المهينة، وأنّ الموت على الأرض، أفضل من الحياة في أرض ليست لنا، وحياةٍ صوت النحيب فيها عالٍ، وسطوة الرجل الأبيض فيها أعلى.

للمرّة الثالثة، قُصِفَت المنطقة الّتي هرب إليها إسماعيل وأسرته، خافوا، قُصِفوا مرّة أخرى، ارتجفت أقدامهم، وبكت عيونهم، وانقبضت أيديهم. ولأنّ الله يحبّ المستضعفين، نجّاهم من قصف المنزل الّذي نزحوا إليه للمرّة الثالثة، وهربوا إلى مدرسة تأوي النازحين، وهي مدرسة الفالوجة الّتي تتبع «الأونروا» (وكالة الغوث لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين)، ولأنّ الموت لم يستطع خطف إسماعيل وأسرته، قرّر الاحتلال أن يُبْكي إسماعيل قبل معاقبته جسديًّا، فقتل أخاه دياب في الواحد والثلاثين من شهر شرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، وهو أكبر إخوة إسماعيل، وأكثرهم حنانًا عليه، ومرافقةً له، بكى إسماعيل دموعًا من دماء، وخرج من حنجرته صوت يشبه صوت بوق القيامة، بأن قومي يا أرض، وابتلعيني لما أصابني من موت في قلبي، وثقب في روحي.

أنهكه الاحتلال بقصف منزله ومنزل جدّه ومنزل عمّته، وقتل أخيه. ذهب إسماعيل وأمّه زاهرة رفقة عمّه ضياء، نحو «المستشفى الإندونيسيّ» لتوديع جثمان دياب ودفنه، ومن ثَمّ توجّهوا إلى مقبرة بيت لاهيا، ودفنوا دياب بجوار والده، ومن ثَمّ قرّروا النزوح من شمال قطاع غزّة إلى جنوب القطاع.

في رحلة النزوح، تحرّكت خمس أُسَر، أسرة إسماعيل، وأسرة جدّه، إضافة إلى ثلاث أُسَر تعرّفوا عليهم أثناء نزوحهم في المدرسة، تحرّكوا نحو الممرّ ’الآمن‘ الّذي تحدّث عنه جيش الاحتلال، وهو الحاجز العسكريّ الفاصل منطقة وسط غزّة وشمالها عن جنوب القطاع، ممرّ مليء بالآليّات العسكريّة، والجنود المدجّجين بالسلاح. كان إسماعيل لا يحمل شيئًا، سوى أنّه يجرّ كرسيًّا متحرّكًا فيه عمّه ضياء، وهو مقعد بسبب تفاقم وضعه الصحّيّ جرّاء العدوان. ضياء مريض كلًى، وكان يغسل في «المستشفى الإندونيسيّ» ثلاث مرّات أسبوعيًّا، ولأنّ الاحتلال قصف المبنى المُجَهَّز بأجهزة خاصّة لمرضى الكلى، ومحاصرة المستشفى، لم يتمكّن ضياء من الغسيل لمدّة تجاوزت الشهر؛ ممّا أدّى إلى تورّم قدميه، وانسداد الوريد المُعَدّ بخاصّة للغسيل، وعدم قدرته على المشي والتحرّك.

بعد وصول إسماعيل وأسرته الحاجز العسكريّ على شارع صلاح الدين الساعة الثانية والنصف من ظهر يوم الجمعة. وبينما كان إسماعيل يسحب عمّه عبر الحاجز، ناداه الجنديّ: “هِي، إنت ولا!”. لم يُجِبْ إسماعيل… نادى الجنديّ مرّة أخرى: “ولا، بنادي عليك، تعال”. أجاب إسماعيل: “ما بقدر آجي، قاعد بَزُقّ عمّي”. ردّ الجنديّ: “قلتلّك تعال ما تجاوبني”. أعاد إسماعيل بصوته الطفوليّ: “ما بقدر أسيب عمّي لإنّه ما في حدّ يزقّه ويحمله غيري”. غضب الجنديّ وقال: “فوق ما إنت وقح وكمان بتتنمرد؟ تعال يا وقح بقلّك”. ترك إسماعيل عمّه، وذهب منذ يومها إلى اليوم.

أعاد إسماعيل بصوته الطفوليّ: “ما بقدر أسيب عمّي لإنّه ما في حدّ يزقّه ويحمله غيري”. غضب الجنديّ وقال: “فوق ما إنت وقح وكمان بتتنمرد؟ تعال يا وقح بقلّك”. ترك إسماعيل عمّه، وذهب منذ يومها إلى اليوم.


 

بحسب بعض الشهود الّذين اخْتُطِفوا مع إسماعيل؛ جيش الاحتلال جرّد إسماعيل من ملابسه كافّة كما ولدته أمّه؛ ومن ثَمّ وجّه إليه بعض الجنود شتائم جنسيّة باللغتين العبريّة والعربيّة، وضربوه بالسلاح على ظهره، أعادوا إليه ملابسه، ونقلوه إلى مبنى «قصر العدل» الكائن في حيّ الزهراء وسط قطاع غزّة، وهو مبنًى يتبع القضاء الفلسطينيّ، حوّله الاحتلال إلى سجن للمختطفين قبل تحويلهم إلى «سجن عوفر» و«سجن بئر السبع». وبحسب شهود آخرين؛ فإنّ جيش الاحتلال أعدم أكثر من سبعة شبّان فلسطينيّين من قطاع غزّة، عقب اعتقالهم على الحاجز.

أمّا أمّ إسماعيل فما زالت حتّى اللحظة، تذهب يوميًّا نحو منطقة الحاجز المعروفة باسم «نيت ساريم»؛ ظنًّا أنّ إسماعيل سيخرج في أيّ لحظة، قرابة الشهر، وأسرة إسماعيل تمشي ذهابًا وإيابًا بين النصيرات و«نيت ساريم»، عسى الله أن يفجّر من تحتهم مياهًا تحمل نجاة إسماعيل من الأسر، ويا الله! ما أشبه اليوم بالبارحة! بين هاجر ونبيّ الله إسماعيل، وزاهرة ونبيّ المستضعفين إسماعيل.

هذه القصّة لمّا تنتهِ بعد، المصادفة الحقيقيّة هي الآن، وبينما أنا أكتب هذه المادّة، وصلني أنّ ضياء عمّ إسماعيل توفّي جرّاء تفاقم وضعه الصحّيّ؛ إذ أُصيب بنزيف في الدماغ بسبب عدم توفّر الأجهزة والمعدّات لغسل الكلى في المناطق الجنوبيّة، وسيُدْفَن اليوم بعيدًا عن دياب، ومعرفة أخبار ابن أخيه إسماعيل.

نحن في غزّة جثث لم يَحِنْ موعد دفنها، قبور وشواهد متحرّكة، نبكي بعضنا، وبعضنا يبكينا، ننتظر نبيًّا يخرج، يضرب بعصاه بحر غزّة، يشقّه لنا؛ لنعبر نحو النجاة، فإمّا حياة تسرّ الصديق، وإمّا حياة تغيظ العدا.

هل نحن أنبياء هذا الزمان؟ إذا كانت الإجابة: لا؛ فلِمَ نحن حزانى؟ وإذا نعم: فأين معجزة عيسى وموسى وإسماعيل؟

 


 

أحمد بسيوني

 

 

كاتب فلسطينيّ، درس ماجستير «العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة» في «معهد الدوحة للدراسات العليا». ينشر مقالاته في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة، شارك في إنتاج عدد من الأفلام الوثائقيّة مع «التلفزيون العربيّ».

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *