Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

هل يمكن أدوات السيّد أن تهدم منزله؟

 

مع استمرار حرب الإبادة الّتي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، لاقى قرار «محكمة العدل الدوليّة» بشأن ’التدابير المؤقّتة‘ في سياق دعوى الإبادة الجماعيّة، الّتي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، ردّات فعل عديدة تراوحت بين الإشادة والتحفّظ والاستنكار. وبصفة خاصّة، أثار عدم دعوة المحكمة بشكل مباشر إلى وقف فوريّ لإطلاق النار في القطاع الكثير من الانتقادات.

وبالرغم ممّا يحمله تحرّك جنوب أفريقيا المحمود من أهمّيّة سياسيّة ورمزيّة كبيرة، فلا يبدو أنّه ثمّة تعويل كبير عليه في أن يسفر عن نتائج  جذريّة في نهاية الأمر. في الحقيقة، لا يحمل تاريخ اشتباك الفلسطينيّين مع القانون الدوليّ ومؤسّساته دلائل مبشّرة في ما يتعلّق بقدرته على تدخّل فعّال ونافذ في المسألة الفلسطينيّة، في ظلّ الحصانة الدوليّة الّتي طالما تمتّعت بها إسرائيل، وقدرتها على الالتفاف على آليّات الشرعيّة الدوليّة، والأهمّ ارتهان منظومة القانون الدوليّ عمومًا بميزان القوى الجيوسياسيّة.

لا يحمل تاريخ اشتباك الفلسطينيّين مع القانون الدوليّ ومؤسّساته دلائل مبشّرة في ما يتعلّق بقدرته على تدخّل فعّال ونافذ في المسألة الفلسطينيّة

في كتاب «تاريخ من الأمل الزائف: لجان التحقيق في فلسطين»[1]، تتناول لوري أَلِن، المحاضِرة في مجال الأنثروبولوجيا في «جامعة سواس» في لندن، تاريخ انخراط الفلسطينيّين في منظومة القانون الدوليّ، من خلال دراسة مجموعة من لجان التحقيق الّتي تناولت الأوضاع في فلسطين في ظروف تاريخيّة مختلفة. ترى أَلِن أنّ لجان التحقيق الدوليّة تمثّل منظورًا مهمًّا لفهم ديناميّات عمل القانون الدوليّ، ولاستكشاف مثالبه الّتي تتبيّن من خلال دوره في تشكيل المخيال السياسيّ الفلسطينيّ، وقدرته على جذب الفلسطينيّين إلى دوّامته لعقود طويلة، رغم وعوده المنكوثة وإخفاقاته المتكرّرة في تحقيق العدالة، أو إحداث تغيير جذريّ في مسار القضيّة الفلسطينيّة.

 

التمثّلات الليبراليّة للقانون الدوليّ

خلال المئة عام المنصرمة، أُرْسِل إلى فلسطين ما يزيد على 20 لجنة تحقيق وبعثة تقصّي حقائق كبرى؛ إذ كان يجري إيفاد هذه اللجان عادة حين كان يشتدّ العنف ويحتدم النزاع بين الصهاينة والفلسطينيّين. كانت بريطانيا الأكثر إرسالًا للجان حتّى إعلان قيام إسرائيل دولةً، ثمّ انحسر دورها في هذا الشأن لصالح الولايات المتّحدة و«الأمم المتّحدة» بعد عام 1948.

تضطلع لجان التحقيق الدوليّة عادة بمهمّات جمع المعلومات، ودراستها من منظور القانون الدوليّ، واقتراح سبل للتسوية. وتنطلق هذه اللجان من تصوّر للقانون الدوليّ أداةً لحلّ النزاعات تُشَكِّل الليبراليّة أساسًا أيديولوجيًّا له، فثمّة ارتباط وثيق بين مبادئ القانون الدوليّ و’الدولانيّة الليبراليّة‘، مذهبًا ترسّخ بعد الحرب العالميّة الأولى، وتبنّاه القائمون على النظام العالميّ الجديد حينذاك للتعاطي مع معضلات السياسة العالميّة. تمثّل المبادئ الجوهريّة لليبراليّة، مثل حقّ تقرير المصير، وموافقة المحكومين، والمواطنة، والمساواة أمام القانون، ومبادئ حقوق الإنسان، وتقبّل الأقلّيّات، وحلّ النزاعات السياسيّة من خلال الخطاب العقلانيّ، أساسًا ومرجعيّة للجان التحقيق. وتمثّل هذه اللجان، بتفعيلها واستدعائها لمبادئ القانون الدوليّ، فضاء لمناقشة مفاهيم سياسيّة جوهريّة تتعلّق بالحرّيّة والعدالة والنظام السياسيّ، ومساحة يُؤَدَّى فيها القانون الدوليّ، وتُوضَع القيم الليبراليّة الّتي يرتكز عليها قيد العرض.

لا يرتكز القانون الدوليّ على القيم الليبراليّة فحسب، بل إنّه أيضًا وسيلة لوضع الأعراف والوعود الليبراليّة في حيّز التنفيذ الفعليّ. يتمثّل ذلك، على سبيل المثال، في ما يوليه القانون الدوليّ من أهمّيّة للفرد صاحب الحقوق، الّذي يمثّل ركيزة نظام حقوق الإنسان وفي ما يقدّمه من وعود بالمساواة والحرّيّة والعدالة، ورعاية المهمّشين والاستماع إليهم، والتعاطف معهم.

ترى أَلِن، من ثَمّ، أنّ لجان التحقيق الدوليّة تقدّم عدسة مهمّة لدراسة ديناميّات العلاقة بين القانون الدوليّ، بمعناه الأوسع كخطاب وشبكة مؤسّسات تجسّد مبادئ عالميّة، والليبراليّة بوصفها خطابًا وأيديولوجيّة، من خلال النظر إلى السياقات الفعليّة الّتي تُؤَدَّى فيها القيم الجامعة بينهما.

ترى أَلِن، من ثَمّ، أنّ لجان التحقيق الدوليّة تقدّم عدسة مهمّة لدراسة ديناميّات العلاقة بين القانون الدوليّ، بمعناه الأوسع كخطاب وشبكة مؤسّسات تجسّد مبادئ عالميّة، والليبراليّة بوصفها خطابًا وأيديولوجيّة…


 

في هذا الصدد، تتناول أَلِن بالتحليل المفصّل ستّ لجان تحقيق دوليّة كبرى، تقصّت الأوضاع في فلسطين في فترة تمتدّ من عام 1919 إلى عام 2009. وتهدف أَلِن بدراسة لجان التحقيق من منظور أنثروبولوجيّ وإثنوغرافيّ، واعتمادًا على مصادر متنوّعة تتضمّن أرشيفات وطنيّة، وإصدارات أكاديميّة، وصحف ووسائل إعلام إلكترونيّة، ووثائق وتقارير رسميّة خاصّة بلجان التحقيق، ومذكّرات خاصّة، وخطابات وأوراق شخصيّة، تهدف إلى تبيان كيف ظلّت هذه اللجان ملمحًا رئيسًا للاشتباك الدوليّ مع القضيّة الفلسطينيّة لعقود، رغم إشكاليّاتها ونتائجها الهزيلة.

تتحدّى أَلِن بهذا النهج ما يشيع في دراسات التاريخ من سيادة السرديّات الأورو-أمريكيّة، وتقدّم تاريخًا بديلًا لليبراليّة والقانون الدوليّ يضيء على أصوات الفاعلين وسرديّاتهم من ’الجنوب العالميّ‘، وعلى المشاركين العاديّين من خارج النخبة، وذلك بدراسة الأبعاد المتعدّدة للنظام القانونيّ-الليبراليّ كما مورِس في سياقات واقعيّة معيشة. وتسعى أَلِن من خلال ذلك إلى استيضاح صور مراكمة القانون الدوليّ لسطوته الأيديولوجيّة وأسبابها وأدوات هيمنته، حتّى أصبح “تقليدًا سياسيًّا فلسطينيًّا”.

 

لجان التحقيق بين الترحيب والمقاطعة

أولى لجان التحقيق الدوليّة الّتي أُوفِدَتْ إلى المنطقة كانت «لجنة كينج-كرين»، الّتي أرسلها الرئيس الأمريكيّ ودرو ويلسن إلى سوريا وفلسطين في عام 1919؛ للوقوف على طبيعة الأوضاع في الشرق الأدنى بعد تفكّك الحكم العثمانيّ. أثارت هذه اللجنة اهتمامًا كبيرًا لدى الفلسطينيّين، وقُوبِلت بحماسة وتفاؤل حول إنهاء الاستعمار في المنطقة، على خلفيّة وعودها باحترام الرأي العامّ، ووعود ويلسن برعاية مصالح الشعوب المعنيّة.

قابلت اللجنة أعدادًا كبيرة من الفلسطينيّين والعرب من مختلف الطبقات والمشارب، واستمعت إلى تطلّعاتهم واقتراحاتهم السياسيّة، الّتي دلّت على رؤية واضحة لما طمحوا إليه من دولة مستقلّة بنظام حكم ديمقراطيّ، يقوم على حماية حقوق الأقلّيّات، من خلال ضمانات دستوريّة تكفل حقوق اليهود في المواطنة والمساواة. وجاء تقرير «لجنة كينج-كرين» متماشيًا مع الكثير من مطالب العرب والفلسطينيّين، إذ أوصى بتقييد الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، وتأسيس دولة سوريّة موحّدة تشمل فلسطين ولبنان، وأن تقوم الولايات المتّحدة بدور المنتدب على هذه الدولة الناشئة. لكنّ مصير هذا التقرير آل إلى الحجب، ولم يُنْشَر كاملًا إلّا في عام 1922[2]، كما آل الانتداب على فلسطين في النهاية إلى بريطانيا وفقًا للخطط والاتّفاقيّات المبرمة سلفًا بين القوى الاستعماريّة.

على خلاف ما قُوبِلت به «لجنة كينج-كرين» من ترحيب، وما عُلِّقَ عليها من آمال، قابل الفلسطينيّون «لجنة پيل»[3] بالرفض والمقاطعة. شكّلت بريطانيا هذه اللجنة في عام 1936 بهدف التعامل مع التوتّرات الّتي عمّت فلسطين على خلفيّة اندلاع «الثورة العربيّة الكبرى». كان الفلسطينيّون الّذين شهدوا قدوم خمس لجان تحقيق أخرى، منذ إيفاد «لجنة كينج-كرين»، قد فقدوا الثقة في فاعليّة هذه اللجان، وفي نزاهة الحكومة البريطانيّة. وقد مثّلت مقاطعة الفلسطينيّين المؤقّتة «للجنة پيل» إحدى المحاولات القليلة للقطع مع المنظومة الليبراليّة-الكولونياليّة، الّتي كانت تحاول إعادة هيكلة نفسها، والحفاظ على هيمنتها.

أولى لجان التحقيق الدوليّة الّتي أُوفِدَتْ إلى المنطقة كانت «لجنة كينج-كرين»، الّتي أرسلها الرئيس الأمريكيّ ودرو ويلسن إلى سوريا وفلسطين في عام 1919؛ للوقوف على طبيعة الأوضاع في الشرق الأدنى…


 

بعد مقاطعتهم «للجنة پيل» لشهور، رضخ الفلسطينيّون في النهاية للتعاون معها بسبب الضغط السياسيّ من الملوك والأمراء العرب، والقمع البريطانيّ العنيف للثورة. وقد وضعت هذه اللجنة بذور خطّة تقسيم فلسطين في توصياتها الّتي أشعلت المظاهرات في الشرق الأوسط، وأجّجت الثورة الفلسطينيّة من جديد، وكذلك الردّ البريطانيّ العنيف عليها.

عاود الفلسطينيّون استخدام إستراتيجيّة المقاطعة في عام 1947، وبشكل تامّ وقاطع هذه المرّة، مع «لجنة الأمم المتّحدة الخاصّة بفلسطين» (اليونسكوب)، الّتي تمخّض عنها قرار الجمعيّة العامّة رقم 181(II)، وقد قضى هذا القرار بتقسيم فلسطين، وأفضى إلى الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في العام التالي، وشرعنة وجودها.

 

معايير واشتراطات أدائيّة

ظلّ الفلسطينيّون، طوال فترات انخراطهم مع لجان التحقيق الدوليّة، يستدعون مبادئ القانون الدوليّ، والقيم الليبراليّة الّتي آمنوا بها أسسًا لحقّهم في الاستقلال وتقرير المصير. في المقابل، كان المبعوثون الغربيّون يعتمدون في تحقيقاتهم على معايير متغيّرة لتقييم استحقاق الفلسطينيّين لمطالبهم. كان على الفلسطينيّين بالتالي الانخراط في أداءات معيّنة لإثبات أهليّتهم السياسيّة، واستحقاقهم لمطالبهم الطبيعيّة والمشروعة. على سبيل المثال، كان تقييم الشعور القوميّ لدى الفلسطينيّين معيارًا رئيسًا لعمل بعض لجان التحقيق، مثل «لجنة كينج-كرين» و«لجنة پيل»، لكنّ التصوّرات حول التمثّل الملائم للقوميّة اختلفت من لجنة إلى أخرى.

تغيّرت هذه المعايير بعد الحرب العالميّة الثانية، وقد تمثّلت هذه المرّة من خلال «لجنة التحقيق الأنجلو-أمريكيّة»، الّتي أُوفِدت إلى فلسطين في عام 1946 للبحث في أوضاع يهود أوروبّا، والتداعيات الناجمة عن الهجرة اليهوديّة والاستيطان الصهيونيّ في فلسطين الانتدابيّة. كان لافتًا في هذه اللجنة ما تسمّيه أَلِن “إبستمولوجيا المعاناة”، إذ أضحى التعاطف مع المعاناة اليهوديّة قيمة ليبراليّة جوهريّة، في ضوء ما أفضت إليه الحرب العالميّة الثانية من ظروف ومآلات. ووفق هذه المعايير الجديدة، حاول الفلسطينيّون إثبات إنسانيّتهم وصدق تعاطفهم مع المحنة اليهوديّة أمام أعضاء اللجنة، إلى جانب حرصهم المعتاد على تأكيد قيم الديمقراطيّة ومبادئ القانون الدوليّ.

لكن لم يكن التعاطف الّذي أبداه الفلسطينيّون كافيًا للمحقّقين الغربيّين في ظلّ الإبستمولوجيا الحاكمة في تلك اللحظة، الّتي قامت على تسييس الألم اليهوديّ، وعلى النظر إلى المسألة وفقًا لإطار من تراتبيّة المعاناة. وفي حين قدّم الفلسطينيّون مُحاجّات عقلانيّة في المسألة اليهوديّة، بصفتها أزمة دوليّة ينبغي حلّها من خلال مبادرات عالميّة، وطرحوا حلًّا ديمقراطيًّا محدّدًا وتفصيليًّا للوضع في فلسطين، يتمثّل في دولة عربيّة ذات سيادة بحقوق كاملة لمواطنيها اليهود، بالإضافة إلى ما عرضته الدول العربيّة من استعداد للمساهمة بنصيبها في حلّ هذه المعضلة، واستقبال أعداد من اللاجئين اليهود في بلادهم، فلم يكن مقبولًا من الفلسطينيّين أقلّ من الرضوخ لمطامع الصهاينة في فلسطين. وبينما تمسّك الفلسطينيّون بالقيم الليبراليّة الجوهريّة الّتي تقوم على التسامح والمساواة والديمقراطيّة، فسّرت اللجنة هذا التمسّك على أنّه موقف ’متصلّب‘، من شأنه أن يعرقل جهود التسوية.

إلى جانب هذه التحوّلات، الّتي شهدتها  لجان التحقيق الدوليّة في ما تبنّته من معايير لتقييم أحكامها، كانت إستراتيجيّات عمل هذه اللجان وأطره تتغيّر أيضًا مع الوقت. وبحسب أَلِن، مثّل تغيير هذه اللجان لجلدها بشكل مستمرّ عاملًا رئيسًا في إعادة إحياء الأمل الفلسطينيّ في فاعليّتها، ومن ثَمّ التورّط المتزايد في منظومة القانون الدوليّ. كأنّ كلّ تغيير جديد كان بمنزلة وعد ضمنيّ بأنّ الصيغة المستحدثة من آليّات القانون الدوليّ وممارساته، ستكون مختلفة هذه المرّة، وستأتي بنتائج إيجابيّة تفارق النمط السائد.

بينما أثار تقرير جولدستون سجالًا واسعًا، طغى الجدال حول التقرير على الأوضاع المأساويّة والانتهاكات في حقّ الفلسطينيّين في القطاع، كما ذهبت توصياته في النهاية أدراج الرياح…

في «لجنة ميتشل»[4]، على سبيل المثال، برز التركيز على فكرة التوازن معيارًا لتحقيق الإنصاف والموضوعيّة. كان الرئيس الأمريكيّ بيل كلينتون قد أرسل هذه اللجنة إلى فلسطين بعد شهرين من بداية «انتفاضة القدس والأقصى» [المعروفة بالانتفاضة الثانية]، بهدف الخروج بتوصيات لإنهاء العنف، واقتراح سبل لاستئناف مفاوضات السلام. وقد انخرط أعضاء هذه اللجنة في ممارسة ما تسمّيه أَلِن “الاستماع الديمقراطيّ”، الّذي يقوم على منح ’كلا الطرفين‘ اهتمامًا وثقلًا مماثلًا لمشاعرهم ومطالبهم. فبالنسبة إلى أعضاء «لجنة ميتشل»، تمثّلت المشكلة المحوريّة في ما يخصّ ’الصراع‘ بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، في عدم استعداد كلّ طرف لفهم وجهة نظر الطرف الآخر. لكنّ هذا التفعيل للمبدأ الليبراليّ الّذي يرتكز على الاستماع إلى وجهات نظر متنوّعة، والتركيز على العنف الحاصل لحظة التحقيق والتعبير عن التعاطف مع كلّ الأطراف، يكشف إشكاليّة التعامل مع المعضلة الفلسطينيّة صراعًا بين طرفين متساويين، لا بين مستعمِر ومستعمَر. ويفضي هذا النهج إلى إهمال السياق التاريخيّ وطبقات العنف المتراكمة للاحتلال الإسرائيليّ وامتيازاته، احتلالًا استيطانيًّا مدعومًا من القوى الكبرى.

أمّا في بعثة الأمم المتّحدة لتقصّي الحقائق بشأن النزاع في غزّة، والمعروفة باسم «بعثة جولدستون»، فقد تمثّلت نقطة ارتكاز هذه اللجنة في ما وثّقته في تقريرها من ارتكاب إسرائيل جرائم ضدّ الإنسانيّة، وجرائم حرب محتملة ضدّ الفلسطينيّين، وفي ما أثارته من أمل في إمكانيّة محاكمة القادة الإسرائيليّين على هذه الجرائم أمام «المحكمة الجنائيّة الدوليّة»، وإنهاء حصانة إسرائيل. شُكِّلَت هذه اللجنة في عام 2009 للتحقيق في ’العنف‘ في قطاع غزّة، على خلفيّة العدوان الإسرائيليّ الّذي بدأ في أواخر عام 2008، في ما عُرِفَ باسم «عمليّة الرصاص المصبوب». وبينما أثار تقرير جولدستون سجالًا واسعًا، طغى الجدال حول التقرير على الأوضاع المأساويّة والانتهاكات في حقّ الفلسطينيّين في القطاع، كما ذهبت توصياته في النهاية أدراج الرياح، شأنه في ذلك شأن تقارير اللجان السابقة.

 

إعادة إنتاج الأمل الزائف

قدّمت لجان التحقيق الدوليّة للفلسطينيّين فضاء لعرض مطالبهم السياسيّة، وللاستماع إليهم، ومخاطبة ’المجتمع الدوليّ‘، الّذي طالما نظروا إليه جمهورًا وحكمًا، ولاستدعاء القانون الدوليّ لإضفاء مصداقيّة على حقوقهم ومطالبهم المشروعة. شكّل بعض هذه اللجان مساحة لبناء التضامن العالميّ مع القضيّة الفلسطينيّة، ولمقاومة صور الإنكار والمحو التاريخيّ للمنظور الفلسطينيّ ولتجارب الفلسطينيّين تحت الاحتلال. وقد تجلّى هذا بخاصّة في لجنة الأمم المتّحدة الخاصّة المعنيّة بالتحقيق في الممارسات الإسرائيليّة، الّتي تمسّ حقوق الإنسان لسكّان المناطق المحتلّة (اللجنة الخاصّة) الّتي تمارس عملها منذ عام 1968 حتّى الآن. أسّست هذه اللجنة، خاصّة في العقود الثلاثة الأولى بعد نشأتها، لمساحات كبيرة وقويّة لإيصال صوت الفلسطينيّين إلى المجتمع الدوليّ، وللتعبير عن التعاطف والتضامن العالميّين معهم، ولتحدّي السرديّات الإسرائيليّة المهيمنة على الخطاب الغربيّ.

يقدّم القانون الدوليّ، متمثّلًا في لجان التحقيق، بحسب أَلِن، ’مسرحًا‘ لأداء صنوف من المشاعر والقيم الأخلاقيّة والهويّات، ومنصّةً لإثبات الأهليّة السياسيّة، وللمصادقة عليها، ما يُنْتِج شعورًا بالرضا عن اتّباع هذه القيم وأدائها لدى كلّ المشاركين في اللجان، بمَنْ في ذلك أعضاؤها. ويكمن في هذا الشعور جانب مهمّ من حيثيّات سيادة القانون الدوليّ.

رغم ذلك، وعلى اختلاف الظروف والملابسات الّتي بُعِثَتْ فيها، تشابهت كلّ هذه اللجان الدوليّة في مآلاتها، إذ لم تسفر إلّا عن إعادة إنتاج الوضع القائم، بل المساهمة في ازدياده سوءًا في بعض الأحيان. إلى جانب ذلك، تلفت أَلِن النظر إلى تقليص هذا التورّط الفلسطينيّ المستمرّ في حبائل منظومة القانون الدوليّ ومؤسّساته لأفق الرؤية والعمل السياسيّ؛ من أجل فلسطين، وإلى ما حجبه من صنوف وإمكانيّات للتغيير. لم يكن القانون الدوليّ بالطبع أداة الفلسطينيّين الوحيدة خلال تاريخ نضالهم السياسيّ، الّذي يتضمّن طيفًا متنوّعًا من الممارسات، من بينها الإضراب والتمرّد، والمقاومة المسلّحة، وحركة المقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة والاقتصاديّة لإسرائيل. لكن ما تلفت أَلِن النظر إليه في هذا الكتاب هو ما استثمره الفلسطينيّون من قدر كبير من الاهتمام والطاقة في فضاءات القانون الدوليّ، وما أفضى إليه ذلك من خنق لحيويّة حركة الفلسطينيّين السياسيّة وفاعليّتهم.

لا يُنْبِئُنا التاريخ الّذي تسرده أَلِن في هذا الكتاب المهمّ، وشواهد الواقع كذلك، بإمكانيّة أن يُحْدِث القانون الدوليّ، بصورته الحاليّة، تغييرات عميقة وجذريّة في بِنى السياسة العالميّة وتوازناتها…

ساهم هذا الاشتباك الفلسطينيّ المطوّل مع القانون الدوليّ أيضًا، في تحويل جزء مهمّ من المقاومة الفلسطينيّة إلى شكل من التوسّل القانونيّ، الليبراليّ، وتفريغ العواطف القوميّة في مناقشات منطقيّة، وصوغ مطالب المساواة والعدالة بلغة القرارات الأمميّة الجافّة والباردة، وحجب تاريخ القمع والقهر والاحتلال وأسبابه البنيويّة، خلف ستار الحياد والموضوعيّة، وممارسات الإنصاف الزائف و’التوازن‘ الظرفيّ، المؤقّت.

لا يُنْبِئُنا التاريخ الّذي تسرده أَلِن في هذا الكتاب المهمّ، وشواهد الواقع كذلك، بإمكانيّة أن يُحْدِث القانون الدوليّ، بصورته الحاليّة، تغييرات عميقة وجذريّة في بِنى السياسة العالميّة وتوازناتها؛ “لأنّ أدوات السيّد لا يمكن أن تهدم منزل السيّد”[5]، كما تذكّرنا مقولة الكاتبة والناشطة الأمريكيّة أودري لورد، باختصار وافٍ. لذلك؛ ربّما لن يكون القانون الدوليّ مجديًا، في الحالة الفلسطينيّة على وجه خاصّ، إلّا منتِجًا للأمل الزائف.

 


إحالات

[1] Allen, Lori. A history of false hope: Investigative commissions in Palestine. Stanford: Stanford University Press, 2020.  

[2] يُرَجَّح أنّ وزارة الخارجيّة الأمريكيّة والضغط الصهيونيّ كانا السبب في حجب هذا التقرير.

[3] تُعْرَف هذه اللجنة رسميًّا باسم “اللجنة الملكيّة لفلسطين”.

[4] تُعْرَف هذه اللجنة رسميًّا بـ”لجنة شرم الشيخ لتقصّي الحقائق”.

[5] Lorde, Audre. Sister outsider: Essays and speeches. Berkeley: Crossing Press, 2007. (Original work published 1984).

 


 

أميرة عكارة

 

 

 

باحثة، مهتمّة بسؤال اللغة وعلومها، وبدراسات التحليل النقديّ للخطاب، وبقضايا ودراسات الجندر والجنسانيّة. تكتب في عدّة مجلّات ومواقع عربيّة.

 

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *