Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

دراما الإقطاعيّين والآغوات… من روبن هود إلى عاصي الزند

 

تركّز الدراما السوريّة في غالبها على العلاقات الاجتماعيّة والأسريّة والشخصيّة، وتتناول مواضيع مثل الحبّ، الزواج، العائلة والصداقة. بموازاة ذلك، فإنّ بعض هذه المسلسلات يتطرّق إلى مواضيع اجتماعيّة وسياسيّة أكثر جرأة، مثل الفساد والظلم الاجتماعيّ والحرّيّة الفرديّة؛ تبعًا لسقف النقد المسموح به. تروّج الدراما السوريّة لمواضيع سياسيّة وتاريخيّة، توثيقيّة أو فانتازيّة، توافق عليها أو تمنعها دائرة الرقابة في «الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون» في دمشق، حسب المناخ السياسيّ والاجتماعيّ العامّ. إلّا أنّ الظروف الحاليّة، ودخول شركات إنتاج القطاع الخاصّ، وظهور الدراما المشتركة، سمحت بمزيد من الحرّيّة في صناعة المحتوى الدراميّ. وبعد أن أصبح المجتمع السوريّ، بعامّة، ينتقد المسلسلات الّتي تُعيد تكرار المشاهد المرعبة من حرب ودمار وموت؛ أي تلك الّتي عايشها السوريّون بعد عام 2011،  ظهرت دعوات موجّهة إلى صنّاع الدراما السوريّة للخروج من عباءة مواضيع الحرب والمشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، الّتي تعصف بالمجتمع السوريّ منذ عام، والمطالبة بخلق فرص جديدة للدراما الّتي تسلّط الضوء على مكوّنات مجتمعيّة، يمتلك المتابع السوريّ عنها خلفيّة ضئيلة، أو تُعيد إليه الحماسة المفقودة.

تستدعي هذه الدعوات الحديث عن مجتمع عاصر حقبة تاريخيّة ليست ببعيدة، امتدّت بين عامَي 1850 و1920، خاصّة أنّ مسلسلات كهذه تتحدّث عن الإقطاعيّين والآغوات وكبار المُلّاك، تأتي في وقت خَفَت فيه بريق تلك الدراما على أنّها غير واقعيّة، ولا تميل إلى سند تاريخيّ حقيقيّ، أو أنّها تُرْفَض بحجّة أنّ مبيعاتها في الشاشة قليلة، لصالح دراما الحبّ والخيانة والتشويق والدراما البوليسيّة.

 

دراما ما بعد الاستعمار

تُسلّط دراما ما بعد الاستعمار الضوء على الآخر المهمَّش، وتعرضه عنصرًا فاعلًا له القدرة على التأثير وتشكيل مساقه الحضاريّ. تتشكّل حدود هذه النظريّة في إطارين: الأوّل هو مقاومة الهيمنة من خلال رفض ترسّبات الاستعمار، وهيمنة المتنفّذين الّذين خلفهم الاستعمار، والثاني هو نقد خطابات الهيمنة الّتي استند إليها الاستعمار في تسويغه وتبرير وجوده[1]. يهتمّ أدب ما بعد الاستعمار بتحليل الأشكال الثقافيّة الّتي تعكس العلاقات بين السلطة المهيمنة على المجتمعات والناس في هذه المجتمعات، لا سيّما في التوجّهات الثقافيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، والعرقيّة، والقوميّة.

 

 

تتجسّد في دراما ما بعد الاستعمار ملامح نقد الاستعمار وموروثاته؛ إذ غالبًا ما يستخدم المؤلّفون التلفزيون لفضح العنف، والاستغلال، والمحو الثقافيّ الّذي حدث خلال الحقبة الاستعماريّة وقبل انهيار الاستعمار بقليل. تجادل الباحثة هيلين جيلبرت بأنّ مرحلة دراما ما بعد الاستعمار تؤمّن مساحة يمكن فيها سماع أصوات المضطهدين، حيث يمكن التعبير عن الصدمات، وحيث يمكن الكشف عن جراح الاستعمار[2]. إضافة إلى ما ورد، فإنّ دراما ما بعد الاستعمار معنيّة بالاحتفال بالمقاومة، والصمود، والثورة، والتمرّد.

غالبًا ما يستخدم كتّاب دراما ما بعد الاستعمار المسرح للاحتفال بأعمال المتمرّدين على سلطة ما بعد الاستعمار، ولإلهام الجماهير المعاصرة لمواصلة النضال من أجل العدالة والحرّيّة. يشير الباحث كريستوفر بالم، إلى أنّ مسرح ما بعد الاستعمار يهتمّ بالطرق الّتي يتعامل بها الأفراد والمجتمعات مع الاضطهاد، وبالإستراتيجيّات الّتي يستخدمونها لمقاومته[3].

 

دراما الإقطاعيّين والآغوات

توفّر دراما النظام الإقطاعيّ نافذة على حقبة ماضية، بكاميرا تُعيد الحياة إلى هياكل السلطة المعقّدة، والتسلسل الهرميّ الاجتماعيّ في سوريا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. تدور أحداث هذا النوع من المسلسلات بالمجمل في بيئة حيث المؤامرات السياسيّة، وصراعات السلطة، والتسلسل الهرميّ الاجتماعيّ في ذلك الوقت. مع  تتبّع حياة العديد من الباشوات والتجّار، وسيّدات المجتمع آنذاك، والفلّاحين، ورجال الدين، وهم يتفاعلون في حياتهم ضمن ديناميّات نظام الإقطاع المعقّدة، مع تصوير الإقطاعيّ بأنّه المتحكّم بمال العامّة والخاصّة، والحارس لإرث العائلة الإقطاعيّة، والحريص على أن يُبقي مُلّاك الأراضي الّذين استولى على أملاكهم يعملون تحت إمرته.

إنّ مجتمعًا يعجّ بالطبقيّة، ويفتقر إلى العدالة الاجتماعيّة، ويقوم على حكم عسكر الدولة العثمانيّة الّتي كانت على أعتاب نهاياتها، والّذين كانوا يقيمون في قرى سوريا، ويجبرون السكّان على الأتاوات[4]، من شأنه أن يُنتج «روبن هوود» بنسخته السوريّة، الّذي يتنقّل في السياسات المعقّدة للتسلسل الهرميّ الإقطاعيّ، ويواجه تحدّيات من الآغا وحاشيته المخطّطة، وأبنائه الطموحين للسلطة، ويحارب لأجل بقاء جماعته ولقمة عيشهم واسترداد حقوقهم السليبة. والدراما الّتي توثّق هذه المرحلة، لا بدّ أن تنقل دور المتمرّد بصفة البطل أو Hero، ودور الإقطاعيّ بصفته مناهضًا للبطل (Anti-Hero)[5]. ويمكن لتوزيع بطولة المسلسل أن ينقسم بين بطلين أوّلهما متمرّد، وثانيهما يُظهر الولاء للآغا وأهله وطموحاتهم الشخصيّة؛ ممّا يؤدّي إلى خيارات صعبة ومعضلات أخلاقيّة. أو حتّى من الممكن أن يكون البطل الثاني هو الآغا نفسه، للحفاظ على قطبيّة الحبكة الدراميّة، والخطّ الدراميّ للمسلسل.

 

المتمرّد والبطولة الدراميّة

يشير الكاتب الفرنسيّ ألبير كامو، في كتاب «الإنسان المتمرّد»، إلى مسؤوليّة الفرد تجاه الجماعة الّتي ينبثق منها، مع تأكيد ضرورة إحداث تغيير من قلب هذه الجماعات المسحوقة، منطلقًا من فكرة أنّ التمرّد هو جزء أساسيّ من الوجود البشريّ، وهو ردّ فعل على عبثيّة الحياة وانعدام المعنى[6]. وينتقد الأحداث التاريخيّة الّتي شكّلت القرن العشرين – وهي مدّة حكم الإقطاعيّين في سوريا، وما نتج عن هذه الحقبة من اضطهاد وظلم – والأيديولوجيّات السياسيّة والاجتماعيّة الّتي ظهرت خلال عصره. يميّز كامو في أطروحته بين نوعين من التمرّد: التمرّد الميتافيزيقيّ، أي التمرّد على حالة الإنسان وحتميّة الموت. والتمرّد التاريخيّ، وهو تمرّد على الهياكل الاجتماعيّة والسياسيّة الّتي تديم الظلم والقمع[7]. أي أنّ التمرّد التاريخيّ ضروريّ، لكن يجب أن يكون مع احترام حياة الإنسان وكرامته، بدلًا من استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسيّة تكون هي الغاية في حدّ ذاتها؛ لا مصلحة الجماعة.

 ومن خلال المتابعة النقديّة، فإنّه غالبًا ما يكون تصوير شخصيّة المتمرّد في الدراما السوريّة، على أنّه شخص يحارب نظامًا إقطاعيًّا غير عادل، ويُنْظَر إليه عادةً على أنّه شخصيّة بطوليّة، يدافع مع رفاقه عمّا يعتقدون أنّه صحيح، حتّى لو كان ذلك يعني مخالفة القاعدة أو المخاطرة بسلامتهم. تُظهر مثل هذه الشخصيّات إحساسًا قويًّا بالقسوة والمرونة في آنٍ معًا، وغالبًا ما تلهم الآخرين للانضمام إلى قضيّتهم. علاوة على ذلك، قد توحي شخصيّة المتمرّد في المسلسلات المعروضة بمجموعة متنوّعة من السمات؛ اعتمادًا على السرد المحدّد للدراما؛ فقد يكون الدافع وراء التمرّد شعورًا بالخسارة الشخصيّة أو الظلم، مثل وفاة أحد الأقارب – غالبًا ما يكون أبًا أو أُمًّا – على يد المتصرّفين ورجال الإقطاعيّين، أو تجربة التمييز أو الاضطهاد. وعادةً ما يكون تصويرهم أيضًا على أنّهم يتمتّعون بالحيلة والذكاء، ويستخدمون ذكاءهم وخططهم للتغلّب على خصومهم الإقطاعيّين، وكسب اليد العليا في المعركة ضدّهم، رغم مساندة حكومات الاستعمار لهم، لا سيّما الجندرما العثمانيّة وجنود الاستعمار الفرنسيّ.

 

المتمرّد في الدراما السوريّة

يُعَدّ المتمرّد في الدراما السوريّة رمزًا إلى التمرّد والتحرّر في العالم العربيّ، الّذي عانى الاستعمار والظلم الاجتماعيّ والسياسيّ. ويمكن رؤية هذه الشخصيّة بوصفها محاولةً للتصدّي للقوى الاستعماريّة، والحفاظ على هويّة القرية وأملاكها الّتي سلبها الإقطاعيّ؛ سليل الاستعمار.

يمكن تقدير بداية ظهور شخصيّة المتمرّد على شاشة الدراما السوريّة منذ تسعينات القرن العشرين، مع إنتاج مسلسلات مثل «إخوة التراب»، للمخرج نجدة أنزور، في عام 1996، ومسلسل «الثريّا» للمخرج هيثم حقّي، في عام 1998، وصولًا إلى «عاصي الزند» و«العربجي» إنتاج 2023، مع التركيز على السنوات الأخيرة من حكم العثمانيّين لبلاد الشام، وبداية انتقال السلطة من أيدي العثمانيّين إلى أيدي الإقطاعيّين وعائلاتهم.

فعليًّا يمكن تبرير مواقف الدراما السوريّة، في تعاطيها مع قضايا المتمرّد والسلطة الإقطاعيّة، من خلال النظر في العلاقات الدبلوماسيّة السوريّة – التركيّة، وقياس مقدار قوّتها وضعفها؛ ففي تسعينات القرن الماضي تصاعدت وتيرة الأزمة السياسيّة والدبلوماسيّة بين سوريا وتركيا، حيث حشدت أنقرة قوّاتها على الحدود السوريّة في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1998، مهدّدة باجتياح الحدود إلى الجانب السوريّ، في حال استمرّت دمشق في دعم «حزب العمّال الكردستانيّ» وتأمين ملاجئ آمنة لزعيم الحزب آنذاك، عبد الله أوجلان[8].

 

 

يتناول مسلسل «إخوة التراب»، مثلًا، الصراع بين الفرد والسلطة والمجتمع، وكيف يمكن للمتمرّد أن يتحدّى النظام، والإقطاعيّ الّذي استغلّ فقر عائلته؛ في سبيل استبدال البطل ’إسماعيل‘ بولده، وتسليم إسماعيل إلى العسكر العثمانيّ، وبذلك ينجو ابن الإقطاعيّ من ’التجنيد‘، بينما يحاول البطل في هذه الأحداث أن يحقّق أهدافه، على الرغم من المعوّقات والصعاب الّتي تواجهه. وتتناول العلاقات الاجتماعيّة المختلفة، والتحدّيات الّتي تواجه الفرد في محاولته للتغيير وتحسين وضعه ووضع الجماعة الّتي ينتمي إليها، في ظلّ التغيّرات الدوليّة الحاصلة، والحروب في منطقة السيطرة العثمانيّة.

أمّا في مسلسل «الثريّا» فيمكن القول إنّ شخصيّة ’عكاش‘، الّتي أدّاها الممثّل السوريّ جمال سليمان، تمثّل رمزًا إلى التمرّد، والثورة ضدّ ظلم الإقطاعيّين وفسادهم في المجتمع آنذاك، ضمن حبكة دراميّة تعكس تحوّلًا اجتماعيًّا وثقافيًّا في المنطقة العربيّة بعد فترة الاستعمار؛ إذ يحاول الشعب العربيّ تحقيق الحرّيّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة، والثورة على النظام الإقطاعيّ وشركائه في الفساد الاقتصاديّ.

شخصيّة ’عكاش‘ في مسلسل «الثريّا» شخصيّة معقّدة، ومتمرّدة على النظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ، المتمثّل بالخطّ الرجعيّ الّذي يُعْنى في السياق السوريّ بالعودة إلى أفكار وممارسات وتقاليد قديمة، تخصّ الدين والثقافة والعلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وتعني أيضًا الرفض التامّ لأيّ تغييرات تحدث في المجتمع الإقطاعيّ مثلًا، والتمسّك بالتقاليد القديمة الّتي أرستها السلطة العثمانيّة أو ’الحكمداريّة العثمانيّة‘، بكلّ ما حملته من إيجابيّات وسلبيّات.

صُوِّر ’عكاش‘ شابًّا فقيرًا، يحاول البحث عن العدالة والمساواة للفقراء والمظلومين في المجتمع، وتتميّز شخصيّته بالشجاعة، والإصرار على المواجهة، والتحدّي للسلطة والمنظومة الاجتماعيّة الّتي تفرض الفساد والظلم. وهو يمتلك قدرًا كبيرًا من الحنكة والذكاء، وهذا يمكّنه من توجيه الناس وإقناعهم بفكرته ورؤيته لتغيير المجتمع، فضلًا على عاطفة كبيرة تزيد من محبّة ابنة الإقطاعيّ إليه.

على الرغم من ذلك، يظهر ’عكاش‘ في بعض المشاهد بصورة غاضبة وعنيفة؛ ممّا يؤدّي إلى تحوّله إلى شخصيّة عدوانيّة بصورة إيجابيّة للمشاهد، في محاولة للتماهي مع البطل، وشحن المتابعين بشحنة عاطفيّة. ويعكس هذا التصرّف جانبًا من الغضب الّذي يشعر به بسبب الظلم الّذي يتعرّض له هو والفقراء في المجتمع.

 

بين الزند وروبن هوود

بالانتقال إلى دراما 2023، يجري تصوير المتمرّد على أنّه شخص يقاوم سلطة الإقطاعيّين والبرجوازيّين في الأرياف، كما في مسلسل «عاصي الزند»، ونفوذ الآغوات في المدينة كما في مسلسل «العربجي»، ويحاول تحقيق أهدافه – الّتي لا تكون بالضرورة شخصيّة بل مرتبطة بالجماعة – عن طريق العنف والتمرّد، مع التركيز على صنع سمات شخصيّته وأفعاله وكلماته، واختيارها بما يتناسب والسياق التاريخيّ والاجتماعيّ. يحدث أن يختار مخرج العمل التلفزيونيّ أحدًا من الممثّلين السوريّين، المتمتّعين ببنية جسديّة توحي بالشجاعة والالتزام بقضايا الجماعة. اختيار باسم ياخور لشخصيّة العربجي، واختيار تيم حسن لشخصيّة ’عاصي الزند‘، لتوظيف البنية الجسمانيّة في أداء الشخصيّة لتصبح أقرب إلى الواقعيّة؛ إذ إنّ صورة شخصيّة البطل، في الدراما عمومًا، يجب أن تبقى ذلك الشابّ ذا البنية المتينة، القادر على منازلة الأشرار والرجال المناهضين لرؤيته[9].

يعيدنا توظيف المتمرّد في دراما الإقطاعيّين في سوريا إلى شخصيّة روبن هوود الأسطوريّة، الّتي تحكي عن رامي سهام ماهر، عاش في غابة شيروود مع عصابته من الخارجين عن القانون، يسرق من أموال الأغنياء وأملاكهم ليعطيها للفقراء[10] من أبناء قريته. نقطة التقاء المتمرّد في الدراما السوريّة مع شخصيّة روبن هوود، هي المعركة والنضال ضدّ البرجوازيّة وطبقة التجّار الأثرياء، لا سيّما في ظلّ تشابه ظروف الاضطرابات السياسيّة والفوضى في المملكة المتّحدة، وثورة الريف في سوريا، الّتي جاءت نتيجة للاستثمار الوحشيّ للفلّاحين[11]. زادت نقمة الفلّاحين في سوريا ضدّ قرارات الإقطاعيّين، الّتي ضربت بعرض الحائط قوانين التمليك الّتي أصدرتها الولاية العثمانيّة، ووزّعت بموجبها الأراضي على مَنْ يعمل فيها من سكّان القرية، وأرادوا استملاك هذه الأراضي بمختلف الوسائل، معتبرين أنّهم أحقّ بها من الفلّاحين أنفسهم، واستعبدوهم، مستغلّين بذلك عدم قدرتهم على تسديد الضرائب والديون المستحقّة[12].

في أحد مشاهد مسلسل «عاصي الزند»، يقتحم ’نورس باشا‘ القرية، محاطًا بجند مع أسلحة وخيول، ويستفزّ أهالي القرية بإرغامهم على تسليم أراضيهم ومحصولاتهم الزراعيّة، متجاهلًا أوامر السلطة العثمانيّة بأحقّيّة الفلّاحين باستملاك أراضيهم. في الوقت نفسه، كانت الولايات الواقعة تحت سيطرة العثمانيّين تمرّ بتغيّرات اقتصاديّة كبيرة. إذ أدّى نموّ التجارة والزراعة إلى ظهور طبقة من التجّار الأثرياء والإقطاعيّين، الّذين أصبحوا أكثر قوّة وتأثيرًا. تمركز هؤلاء التجّار في البلدات والمدن، وكانوا يسيطرون على الكثير من ثروات البلاد ومواردها، بينما كان سكّان الريف، الّذين يشكّلون غالبيّة السكّان، يكافحون لكسب لقمة العيش. كان العديد منهم من الفلّاحين الّذين عملوا في الأرض لصالح الإقطاعيّين، وكانوا يخضعون لإيجارات وضرائب عالية؛ فأدّى ذلك إلى انتشار الفقر والاستياء، فضلًا على اندلاع أعمال العنف والاضطرابات بشكل دوريّ. أدّى هذا الظلم إلى تشكّل حركات فلّاحيّة، وتمرُّد على سلطة الإقطاعيّين والنبلاء.

 

’روبن هوود‘ والبرجوازيّة

في هذا السياق، يمكن النظر إلى المتمرّد ضدّ البرجوازيّة، على أنّه استجابة لعدم المساواة الاقتصاديّة والظلم الاجتماعيّ في ذلك الوقت. مثلًا، استهدف روبن هوود وأتباعه التجّارَ والمسؤولين الأثرياء، وسلبوا ثرواتهم، وأعادوا توزيع الثروة على الفقراء. كان هذا تحدّيًا مباشرًا لسلطة الإقطاعيّين وسلطة البرجوازيّة، الّتي لم تكن متعاطفة مع محنة عامّة الناس والفلّاحين.

نجد ’عاصي الزند‘، الّذي أدّى شخصيّته الممثّل السوريّ تيم حسن، وفق قصّة من المرويّات الشعبيّة، تحكي قصّة طفل كبر على مشهد مقتل والده من قِبَل رجال الباشا الإقطاعيّ؛ لأنّه لم يؤمّن كامل مبلغ ’الأتاوة‘. كما رفض والده أن يعطيهم أرضه، وكان قد استلم صكّ التمليك من الحكمداريّة العثمانيّة، وعاد من عسكر السلطنة العثمانيّة لينتقم لأبيه من ابن الباشا، ويستعيد حقوقه وحقوق أهل قريته، وفق حبكة دراميّة تُشكّل ملامحها نسقًا دراميًّا قريبًا من قصّة ’روبن هوود‘.

يشكّل المتمرّد ’الزند‘ مع جماعته من القرويّين الشباب، مجموعة من الخارجين عن القانون (قانون الباشا وحاشيته)، وعاشوا في منطقة تُسَمّى ’الجبّ‘، واستخدموها قاعدة لعمليّاتهم ضدّ الإقطاعيّين والتجّار، وتحكّموا بالطريق الوحيدة لمرور قوافل البضائع إلى المدينة[13]. بفعلهم ذلك، كانوا يتحدّون قوانين السلطات العثمانيّة، ويتحدّون سيطرة البرجوازيّة على الأرض. هذا جعلهم خارجين عن القانون، وأبطالًا في عيون عامّة الناس، الّذين رأوهم يدافعون عن حقوقهم، ويدافعون عن مصالحهم. على الرغم من خسائر تَعرّض لها الفلّاحون، تمثّلت بخسارتهم لمواسمهم، والحصار الّذي أطبق عليهم من قِبَل الجندرما الانكشاريّة العثمانيّة.

 

 

يشير المؤرّخ الفلسطينيّ، المهتمّ بتاريخ المشرق العربيّ الحديث، حنا بطاطو، في كتابه «فلّاحو سوريا أبناء وجهائهم الريفيّين الأقلّ شأنًا وسياساتهم»، إلى أنّ جباية الضرائب ارتفعت في نهايات القرن العشرين، من 2.5 بالمئة لتصل إلى 12.5 بالمئة، وتُؤْخذ قبل درس المحاصيل الزراعيّة. وكان الأهالي يتحمّلون  العبء الضريبيّ الأكبر، وأنّ الأغنياء المتنفّذين في القرى كانوا يدفعون مبالغ أقلّ، ويعوّضونها بزيادة على الضرائب المفروضة على السكّان. أدّى هذا إلى انتفاضات فلّاحيّة بين حين وآخر، كما صوّر لنا مسلسل «عاصي الزند». إذ كان الأهالي يعتصمون ويدعمون المتمرّدين على سلطة الإقطاعيّ؛ فأضعف هذا سيطرة الإقطاعيّ على القرى، وتصدّع النظام الاقتصاديّ ونظام الآغوات في تلك الحقبة، كما في مسلسل «العربجي»، وشخصيّة الشابّ الّذي يعمل بمهنة ’العربجي‘؛ الممثّل باسم ياخور، بدور الشابّ الجلد المناهض لأعمال الآغا النشواتي وأتباعه، وقد أدّى شخصيّته الممثّل السوريّ سلّوم حدّاد.

يوحي مشهد لجوء ’بلقيس خانم‘ إلى ’عبدو العربجي‘، واستجارتها به لتحصيل حقوقها من ’أبو سليم‘، يوحي بقدرة العربجي على حماية حقوق المستضعفين من الآغوات، وضغط العربجي على ’أبو سليم‘ عبر اختطافه وتحصيل حقوق السيّدة بلقيس؛ بقدرة البطل المتمرّد على إحداث تغيير في ذهنيّة الجماعة الّتي ينتمي إليها، بأنّها قادرة على أخذ حقوقها؛ بممارسة الضغط وحشد الرأي العامّ ضدّ المتنفّذين في البلاد.

 

 

بينما يحمل مشهد اجتماع عاصي مع ’نورس باشا‘، قدرة المتمرّد الدبلوماسيّة على التفاوض لنيل الحقوق السليبة، لا سيّما عندما يكون المتمرّد على دراية بماهيّة الباشوات والإقطاعيّين وعقليّاتهم، ومدى هشاشة نظامهم، في حال تعرّضهم للضغط من جمهور الأهالي الّذين ضاعت حقوقهم.

 

المتمرّد والعلاقات العاطفيّة الإنسانيّة

شكّل المتمرّد في الدراما السوريّة توليفة من الصور والمشاهدات، تجتمع في شخصيّة واحدة تعبّر عن مكنونات الحبّ والعاطفة، والعنف والغضب، والخوف والأمل، في آنٍ معًا. يتميّز مسلسل «عاصي الزند» بتناوله لمواضيع اجتماعيّة حسّاسة وصعبة، ويتضمّن علاقات عائليّة واجتماعيّة معقّدة، وتفاصيل واقعيّة تعبّر عن حياة الفقراء، في المجتمع العربيّ عمومًا ومجتمع الأرياف بخاصّة. كما يتميّز بأداء فنّيّ مميّز للممثّلين الّذين وُظِّفوا ضمن قالب جديد، يبتعد عن الصورة النمطيّة لابن الريف المسحوق، الّذي لا يملك كلمة ولا أمرًا؛ بفعل سياسة الحديد والنار الّتي يتّبعها الإقطاعيّ. تتشكّل في المسلسل علاقات عاطفيّة كثيرة بين شخصيّاته، كالعلاقة بين الشابّ ’حسيسون‘، الثائر الّذي انضمّ إلى صفوف المتمرّدين، وابنة قريته ’سمر‘ الّتي أدّت شخصيّتها يارا خوري. ’حسيسون‘ لم يتمرّد فقط على ظلم الباشا، بل تعدّى تمرّده إلى أسرته لكي يتزوّج الفتاة ’سمر‘، رغم معارضة أسرته له.

يقرّ ألبير كامو أيضًا في أطروحته أنّ التمرّد يمكن أن يكون خطيرًا ومدمّرًا إذا لم يُخَفَّف بالعقل والشعور بالمسؤوليّة[14]. بالنظر إلى «عاصي الزند» نراه فعليًّا ذهب بمشاعره إلى مستويات أعلى من الحبّ، تجاوز فيها الطبقة الاجتماعيّة والعلميّة والثقافيّة؛ ليقع بحبّ ’نجاة‘ الّتي أدّت دورها دانا مارديني. ’نجاة‘ فتاة مثقّفة هادئة عقلانيّة وواقعيّة، تمتصّ غضب عاصي وعنفه ونار الثأر الّتي تأكله، وترشده إلى طرق يتخلّص بها من شرور غريمه ’نورس باشا‘. لم تمنع الحالة الاجتماعيّة والتعليميّة والاقتصاديّة والثقافيّة، للبطل ’عاصي الزند‘، من النظر إلى ’نجاة‘ والوقوع في حبّها. ينفي مشهد عرض الزواج الّذي قدّمه ’عاصي‘ للفتاة المثقّفة ’نجاة‘، مبدأ أنّه إذا كان المتمرّد ينتمي إلى طبقة اجتماعيّة مختلفة، أو أدنى من طبقة الفتاة المثقّفة، فقد يواجهان صعوبة في التوافق وفهْم بعضهما بعضًا؛ بسبب الاختلافات الثقافيّة والاجتماعيّة.

 

 

إلّا أنّ المتمرّد من أمثال عاصي يتمتّع بالذكاء والحنكة الاجتماعيّة؛ وبالتالي فإنّه قادر على التأقلم مع طبقة الفتاة المثقّفة، وإثبات نفسه لديها، خاصّة أنّها آمنت بقدرته على إحداث تغيير في مجتمعه، وساعدته على بلوغ أهدافه. وكان أهمّها استغلال معارفها لتسهيل دخوله إلى «البنك المركزيّ العثمانيّ»، وسرقته، ونصرة أهل قريته. وفي الوقت ذاته فإنّ عاصي كان من الجنود المتعلّمين لدى السلطنة العثمانيّة، وقادرًا على فهم ملامح شخصيّة ’نجاة‘ النفسيّة.

 

خاتمة

يمكن النظر إلى معارك المتمرّد ضدّ البرجوازيّة والإقطاعيّة في الدراما السوريّة، على أنّها استجابة لتزايد عدم المساواة الاقتصاديّة والظلم الاجتماعيّ، في حقبة نهايات الدولة العثمانيّة، وتداعي أركانها، وتبدُّل النظام الاقتصاديّ وانتقاله إلى أيدي الأفراد والمتصرّفين. خلق صعود طبقة التجّار الأثرياء انقسامًا صارخًا بين مَنْ يملكون ومَنْ لا يملكون، وسعى المتمرّدون مثل ’عاصي الزند‘ و’العربجي‘ و’عكاش‘ وأتباعه، سعوا إلى تصحيح هذا الاختلال؛ من خلال إعادة توزيع الثروة، وتحدّي سلطة البرجوازيّة وفسادها. في حين أنّ تفاصيل قصّتهم قد تكون محدودة بالخيال الدراميّ، والمرويّات الشعبيّة حول شخوص حقيقيّة، فإنّ الموضوعات الأساسيّة للعدالة الاجتماعيّة، ومقاومة الاضطهاد، جعلت من المتمرّد رمزًا خالدًا إلى مقاومة الإقطاعيّين والآغوات في سوريا، في القرنين التاسع عشر والعشرين.

 


إحالات

[1] Hamadi, Lutfi. “Edward Said: The postcolonial theory and the literature of decolonization.” European Scientific Journal (2014).

[2] Gilbert, Helen, and T. Joanne. “editors, Post Colonial Drama: Theory.” Practice, Politics, (London: Routledge1996).

[3] Balme, Christopher B. The Cambridge introduction to theatre studies. (Cambridge University Press, 2008).

[4] كرد علي، محمّد: خطط الشام؛ الجزء 4. دمشق 1926.

[5] Lodge, David. The art of fiction, (Random House, 2012).

[6] Camus, A. The rebel: An essay on man in revolt. (Vintage, 2012).

[7] Hochberg, H. (1965). Albert Camus and the ethic of absurdity. Ethics, 75(2), 87-102.

[8] Aykan, Mahmut Bali. “The Turkish-Syrian Crisis of October 1998: A Turkish View.” Middle East Policy 6, no. 4 (1999): 174.

[9] Brustein, R. (1958). America’s New Culture Hero. Commentary, 25, 123.

[10] Knight, S., & Knight, S. T. (2003). Robin Hood: a mythic biography. Cornell University Press.

[11] حنا، عبد الله: القضيّة الزراعيّة والحركات الفلّاحيّة في سوريا ولبنان 1820-1920، الجزء الأوّل. (بيروت: دار الفارابي).

[12] مرجع سابق.

[13] بطاطو، حنا: فلّاحو سوريا أبناء وجهائهم الريفيّين الأقلّ شأنًا وسياساتهم. المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2014.

[14] Camus, A. The rebel: An essay on man in revolt.

 


 

مهيب الرفاعي

 

 

كاتب وصحافيّ وباحث سوريّ في «معهد الدوحة للدراسات العليا»، حائز على ماجستير «الترجمة التحريريّة» من «جامعة دمشق». تنصبّ اهتماماته البحثيّة في قضايا الإعلام، والسياسة، والصحافة العربيّة.

 

 


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *