Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

كيف أصبحت الرياضة “دينًا جديدًا”؟

“كان يسوع المسيح رياضيًّا” هكذا ادّعى أحد الواعظين في إحدى الفعاليّات الرياضيّة المنتظمة الّتي أقيمت طوال النصف الأوّل من القرن العشرين في الكنائس البروتستانتيّة في جميع أنحاء بريطانيا. أرسلت الدعوات إلى المنظّمات المحلّيّة، وكان الرياضيّون والنساء يحضرون هذه الفعاليّات جماعيًّا. كانت الكنائس تزيّن بأدوات النوادي والكؤوس الّتي تفوز بها الفرق المحلّيّة. يقرأ المشاهير الرياضيّون، من رياضة الكريكيت أو كرة القدم، الدروس، ويلقي القسّ موعظة عن قيمة الرياضة والحاجة إلى لعبها بالروح الرياضيّة الصحيحة. يكون الواعظ من حين لآخر هو نفسه النجم الرياضيّ مثل بيلي ليدل، لاعب كرة القدم الأسطوريّ في نادي ليڨرپول والفريق الوطنيّ لاسكتلندا.

تباعدت مسارات الدين والرياضة بشكل كبير منذ عام 1960، وانخفض حضور الناس في كنائس أكبر الطوائف المسيحيّة في جميع أنحاء المملكة المتّحدة: الإنجيليكانيّة، والكنيسة الكاثوليكيّة، والكنيسة الميثوديّة، إلى أقلّ من النصف. وأدّى تسويق الرياضة وتلفزتها، في الوقت نفسه، إلى تحويلها إلى تجارة عالميّة تقدّر بمليارات الدولارات.

يتحدّث العديد من النجوم الرياضيّين البارزين بصراحة عن أهمّيّة الدين في حياتهم المهنيّة، بما في ذلك لاعبو كرة القدم الإنجليز مثل ماركوس راشفورد ورحيم سترلينغ وبوكايو ساكا. ينسب بطل العالم للملاكمة للوزن الثقيل تايسون فيوري الفضل لدينه الكاثوليكيّ في إنقاذه من السمنة وإدمان الكحول والاعتماد على الكوكايين. تجتذب الرياضة و “ونجومها” مثل فيوري، قدرًا أكبر من التفاني والإخلاص بين جماهيرهم، ويحرص الأهالي على قضاء أطفالهم يوم الأحد على أرض الملعب، أو في مضمار الركض، كما كانوا في الماضي يحرصون على إرسالهم إلى مدارس الأحد[1].

ولكن إلى أيّ مدى تعتبر عبادة الرياضة، وحجّ الناس المنتظم إلى الملاعب في جميع أنحاء البلاد، مسؤولة عن إفراغ الكنائس والمؤسّسات الدينيّة الأخرى؟ نطرح لكم هنا قصّة رحلة الرياضة والأديان المتوازية في أحيان والمتضاربة في أحيان أخرى، ونسرد لكم كيف حصل “التحوّل الكبير” في المجتمع الحديث.

كانت المسيحيّة قوّة مهيمنة في المجتمع البريطانيّ قبل مائتي عام. عندما بدأ عالم الرياضة الحديث في الظهور في أوائل القرن التاسع عشر، كانت العلاقة بين الكنيسة والرياضة عدائيّة بشكل أساسيّ. أدانت الكنائس، ولا سيّما البروتستانت الإنجيليّون المهيمنون، العنف والوحشيّة في العديد من الرياضات، فضلًا عن ارتباط بعض الرياضات بالمقامرة.

كانت العديد من الرياضات في موقف دفاعيّ في مواجهة هجوم دينيّ. أذكر في كتابي “الدين ونهوض الرياضة في إنجلترا” طرق استجابة الرياضيّين، اللاعبين والمعلّقين على حدّ سواء، بالهجوم اللفظيّ والجسديّ على المتعصّبين الدينيّين. احتفل مؤرّخ الملاكمة هنري داونز مايلز في عام 1880، على سبيل المثال، بأوصاف الروائيّ ويليام ثاكيراي المثيرة لـ “الفنّ النبيل” بينما كان يتحسّر أيضًا على محاولات الدين لكبحه: “يحتوي [هذا الوصف للملاكمة] على عناصر قويّة من شأنها إيقاظ الروح الوطنيّة للشعب الإنجليزيّ في المستقبل، شرط ألّا يستنزف أولئك الّذين يطالبون بالسلام المطلق والحذر الفرط والمعايير الأخلاقيّة الصارمة والسلوك العصابيّ حيويّة أجيالنا الشابّة”.

وظهرت في ذلك الوقت تقريبًا أولى علامات التقارب بين الدين والرياضة. تحوّل بعض رجال الكنيسة، متأثّرين بكلّ من اللاهوتيّات الليبراليّة وبصحّة الأمّة وانتشار الأمراض الاجتماعيّة، من إدانة الرياضات “السيّئة” إلى الترويج للرياضات “الجيّدة”، لا سيّما الكريكيت وكرة القدم. وناشدت حركة المسيحيّة العضليّة[2] الجديدة آنذاك بالاعتراف باحتياجات “الرجل كلّها أو احتياجات المرأة كلّها: الجسد والعقل والروح”.

صارت الرياضة مركزيّة في مناهج المدارس البريطانيّة الخاصّة الرائدة بحلول خمسينيّات القرن التاسع عشر، وقد درس فيها العديد من رجال الدين الإنجيليكانيّين المستقبليّين، والّذين استمرّوا في جلب شغف الرياضة إلى رعاياهم. تمّ تعيين ما لا يقلّ عن ثلث لاعبي الفريق الأوّل في جامعة أكسفورد وكامبريدج من الأعوام 1860 إلى 1900 في وقت لاحق كرجال دين.

بينما كانت الحركة الرياضيّة المسيحيّة في المملكة المتّحدة يقودها الإنجيليكانيّون الليبراليّون، سرعان ما انضمّت إليها طوائف أخرى (بالإضافة إلى جمعيّة الشبّان المسيحيّين، وبعد ذلك بقليل، جمعيّة الشابّات المسيحيّات). أكّدت صحيفة وقائع مدارس الأحد في مقال افتتاحيّ بعنوان “إنقاذ الجسد” في عام 1896 أنّ “محاولة الطلاق بين الجسد والروح كانت مصدر أشدّ ويلات البشريّة على الإطلاق”، وأوضحت أنّه على عكس حالات القدّيسين في العصور الوسطى في الإماتة الجسديّة الشديدة، جاء يسوع لشفاء الإنسان وكافّة احتياجاته، وبالتالي: “عندما يتمّ الاعتراف بدين الصالة الرياضيّة وملعب الكريكيت وغرسه على النحو الواجب في النفوس، حينها نأمل في الحصول على نتائج أفضل”.

تشكّلت النوادي الدينيّة في الغالب من أجل المتعة والاسترخاء بعد ظهر يوم السبت، إلّا أنّ بعضها حقّق أمورًا عظيمة. تأسّس نادي أستون فيلًا لكرة القدم في عام 1874 على يد مجموعة من الشباب في صفّ ميثوديّة مسيحيّة بروتستانتيّة الّذين لعبوا لعبة الكريكيت معًا وأرادوا خوض مباراة شتويّة. تأسّس اتّحاد نورثهامبتون ساينتس للرگبيّ بعد ستّ سنوات وسمّي بهذا الاسم لأنّه تأسّس على يد قسّيس كنيسة القدّيس جيمس في المدينة.

كان المبشّرون المسيحيّون في غضون ذلك ينقلون الرياضة البريطانيّة إلى إفريقيا وآسيا. وكما يصف جي آي مانغان في كتابه “إمبرياليّة وأخلاقيّة الألعاب”، أخذ المبشّرون: “لعبة الكريكيت للميلانيزيّين[3]، وكرة القدم إلى البانتو[4]، والتجديف للهندوس وألعاب القوى للإيرانيّين”. كان المبشّرون أيضًا أوّل لاعبي كرة القدم في أوغندا ونيجيريا والكونغو الفرنسيّة، وربّما في مستعمرة ساحل الذهب الإنجليزيّ السابق (المعروف بغانا حاليًّا)، وفقًا لديفيد غولدبلات في كتابة “الكرة دائريّة”.

استجابت الطوائف الدينيّة وأعضاؤها بشكل انتقائيّ للازدهار الرياضيّ الفيكتوريّ المتأخّر في المملكة المتّحدة، حيث تبنّوا بعض الألعاب الرياضيّة ورفضوا غيرها. استمتع الإنجيليكيّون، على سبيل المثال، بعلاقة الحبّ مع لعبة الكريكيت. وكان كتاب “ملعب الكريكيت (1851)” من الكتب الأولى الّتي احتفلت بالرياضة باعتبارها “اللعبة الوطنيّة” لإنجلترا. وقال جيمس بيكروفت، رجل دين من ديفون: “لعبة الكريكيت، من منظور فلسفيّ، تذكير مستمرّ بفضائل الشعب الإنجليزيّ”.

ومثله مثل الجميع، لاحظ بيكروفت أيضًا “جانبًا أكثر قتامة” للعبة، والّذي ينشأ من المراهنات على مباريات الكريكيت في ذلك الوقت. ولكن، في ادّعاء سيتمّ طرحه في العديد من الرياضات الأخرى على مدى قرن ونصف القرن المقبل، أشار إلى أنّ الرياضة تبقى “حلًّا سحريًّا” للأمراض الاجتماعيّة في البلاد، وأضاف، “إنّ لعبة وطنيّة مثل لعبة الكريكيت تعمل على إضفاء الطابع الإنسانيّ على شعبنا وتحقيق التناغم لديه. تعلّمهم هذه اللعبة حبّ النظام والانضباط والإنصاف من أجل الشرف ومجد النصر الخالصين”.

(Getty)

احتلّ اليهود الصدارة في الملاكمة في بريطانيا في هذه الأثناء، على عكس غير الملتزمين بكنيسة معيّنة، والّذين عارضوا الملاكمة بشكل أساسيّ بسبب عنفها، والّذين عارضوا تمامًا سباق الخيل؛ لأنّه كان قائمًا على الرهان. لقد وافقوا على جميع الرياضات “الصحّيّة”، وكانوا راكبي درّاجات ولاعبي كرة قدم متحمّسين. وفي الوقت نفسه، استمتع العديد من الكاثوليك والإنجيليكيّين بسباق الخيل وبالملاكمة أيضًا.

كانت القضيّة الأكثر إثارة للجدل مع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر، هي صعود الرياضة النسائيّة. وعلى عكس الأجزاء الأخرى من أوروبا، كانت المعارضة الدينيّة قليلة لمشاركة النساء في بريطانيا، إذ كانت نساء الطبقة المتوسّطة والعليا منذ سبعينيّات القرن التاسع عشر يلعبن الغولف والتنس والكروكيه، وبعد ذلك بوقت قصير دخلت الرياضة إلى مناهج المدارس الخاصّة للبنات. كانت الكنائس والمصلّيات الأكثر ثراء في البلاد بحلول تسعينيّات القرن التاسع عشر تشكّل نواد للتنس، في حين أنّ الكنائس ذات الجمهور الاجتماعيّ الأوسع شكّلت أندية لركوب الدرّاجات والهوكي، والّتي رحّب معظمها بكلّ من النساء والرجال.

بلغت مشاركة الكنائس في رياضة الهواة ذروتها في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن الماضي. كانت الأندية الّتي تتّخذ من الكنيسة مقرًّا لها في بولتون في عشرينيّات القرن الماضي تمثّل نصف الفرق الّتي تلعب الكريكيت وكرة القدم على سبيل المثال (أكثر الرياضات الّتي يمارسها الرجال على نطاق واسع)، وأكثر من نصف أولئك الّذين يلعبون الهوكي والبيسبول (عادة ما تمارسها النساء).

اعتبرت البرامج الرياضيّة واسعة النطاق، في ذلك الوقت، أمرًا مفروغًا منه في معظم الكنائس دون الحاجة لتبرير وجودها. إلّا أنّ الكنائس شهدت انخفاضًا تدريجيًّا في الرياضات القائمة في الكنائس بعد الحرب العالميّة الثانية، وزادت حدّة الانخفاض في السبعينيّات والثمانينيّات.

كان منتقدو المدارس والجامعات الخاصّة حتّى قبل بداية القرن العشرين يشكون من أنّ لعبة الكريكيت أصبحت “دينًا جديدًا”. وبالمثل، كان بعض المراقبين لثقافات الطبقة العاملة قلقين من أنّ كرة القدم أصبحت “شغفًا وليست مجرّد ترفيه”. كان التحدّي الأكثر وضوحًا الّذي قدّمه صعود الرياضة للدين هو التنافس على الوقت. بالإضافة إلى المشكلة العامّة المتمثّلة في أنّ كلاهما يستغرقان وقتًا طويلًا، كما ظهرت مشاكل أكثر تحديدًا في اختيار أوقات ممارسة الرياضة.

لطالما واجه اليهود مسألة ما إذا كان ممارسة الرياضة أو مشاهدتها يوم السبت يتوافق مع تعاليمهم الدينيّة خلال عطلة يوم السبت. بدأ المسيحيّون يواجهون مشكلات مماثلة منذ تسعينيّات القرن التاسع عشر مع النموّ البطيء والمطّرد للرياضة الترفيهيّة والتمارين الرياضيّة في أيّام الأحد. قدّمت الدرّاجة وسيلة مثاليّة لأولئك الّذين يريدون قضاء اليوم في الهواء الطلق، بعيدًا عن الكنيسة، وبدأت نوادي الغولف تفتح في أيّام الآحاد أيضًا، وامتدّ هذا إلى حوالي نصف نوادي الغولف الإنجليزيّة بحلول عام 1914.

ولكن على عكس معظم المناطق الأخرى في أوروبا، ظلّت الرياضة الاحترافيّة يوم الأحد نادرة. كان هذا يعني أنّ إريك ليدل، الرياضيّ الاسكتلنديّ وعضو اتّحاد الرگبيّ الدوليّ الّذي خلّد اسمه في فيلم “عربات النار”، بإمكانه بسهولة أن يجمع بين مسيرته الرياضيّة الرائعة ورفضه اللعب في أيّام الأحد، طالما بقي في بريطانيا. عندما أقيمت دورة الألعاب الأولمبيّة عام 1924 في باريس، رفض ليدلّ تقديم تنازلات من خلال المشاركة في تصفيات يوم الأحد لسباق الـ 100 متر. وفاز بالميداليّة الذهبيّة لسباق الــ 400 متر، وذلك قبل توجّهه إلى الصين في العام التالي للعمل كمدرّس تبشيريّ.

كانت الستّينيّات بمثابة بداية النهاية ليوم الأحد البريطانيّ “المقدّس”. رفع اتّحاد كرة القدم الحظر المفروض على كرة القدم يوم الأحد في عام 1960 ممّا أدّى إلى تشكيل العديد من بطولات الدوريّ الأحد للأندية المحلّيّة. استغرقت مباريات الأحد الأولى بين الفرق المحترفة وقتًا أطول، بدءًا من كامبريدج يونايتد ضدّ أولدهام أثليتيك في الدور الثالث من كأس الاتّحاد الإنجليزيّ في 6 يناير 1974. أصبحت لعبة الكريكيت أوّل رياضة بريطانيّة كبرى قبل ذلك في عام 1969 تستضيف رياضة على مستوى النخبة يوم الأحد بمنافستها الجديدة للتيست كريكيت برعاية سجائر جون پلاير وبثّتها هيئة الإذاعة البريطانيّة (BBC).

لكن ربّما كان أوضح مؤشّر على التصوّر المتزايد للمواقع الرياضيّة على أنّها “مساحات مقدّسة” هو ممارسة نثر رماد المشجّعين على أرضيّة الملعب أو بالقرب منها. اكتسب هذا شعبيّة خاصّة في ليڨرپول في عهد المدير الأسطوريّ لنادي كرة القدم بيل شانكلي (1959-1974)، والّذي اقتبس تبريره في سيرة جون كيث موضّحًا: “كان هدفي هو تقريب الناس من النادي والفريق، وجعلهم جزءًا منه. كان التأثير يكمن في أنّ الزوجات رماد أزواجهنّ الراحلين إلى ملعب الآنفيلد وأن ينثرنه على أرضيّة الملعب بعد صلاة قصيرة… وهو ما يعني أنّ الناس لا يدعمون ليڨرپول فقط وهم أحياء، وإنّما وهم أموات أيضًا”. نثر رماد شانكلي بعد وفاته عام 1981 في نهاية الملعب وفي مكان وقوف مشجّعي النادي.

صار عشّاق الرياضة سعداء بالإعلان عن “إيمانهم الرياضيّ”. أشار مشجّع ليڨرپول آلان إيدج في عام 1997 إلى التشابه الممتدّ بين نشأته ككاثوليكيّ ودعمه لفريق ليڨرپول في كتاب “دين آبائنا: كرة القدم دينًا”. قدّم إيدج من خلال عناوين الفصول مثل “Baptism المعموديّة” و “Communion القربان” و “Confession الاعتراف”، شرحًا مقنعًا لسبب قول العديد من المشجّعين إنّ كرة القدم هي دينهم، وكيف يتمّ تعلّم هذا الإيمان البديل: “أحاول تقديم نظرة ثاقبة لبعض الأسباب وراء كلّ هذا الجنون، لماذا يتحوّل أشخاص مثلي إلى مجانين كرة قدم… أروي قصّة تنطبق تمامًا على مشجّعي كرة القدم من أيّ مكان في العالم يكون فيه التلقين العقائديّ على الرياضة من المهد إلى اللحد جزءًا من الرعرعة، بحيث تصير كرة القدم قوّة أساسيّة، أو القوّة الأساسيّة في بعض الأحيان، لتحلّ محلّ الدين في حياة الكثيرين”.

يوفّر ولاء العديد من الناس، سواء كانوا مشاركين أو داعمين، الآن للرياضة مصدرًا أقوى للهويّة من الدين (إن وجد) الّذي يرتبطون به اسميًّا. يقترح المؤلّف جيمي داورد عند الكتابة عن تجاربه في الجري لمسافات طويلة، أنّ الجري في سباقات الماراثون بالنسبة له وللكثيرين غيره، يؤدّي وظيفة لم يعد الدين قادرًا على تقديمها. ويسمّي الركض بـ “المعادل العلمانيّ لصلاة الأحد” و”المعادل الحداثيّ للحجّ في القرون الوسطى”، وأضاف: “ربّما ليس من المستغرب أن تزداد شعبيّة الجري مع انخفاض شعبيّة الدين. يبدو أنّ ثمّة تشابهًا بين الاثنين، إذ يقدّم كلّ واحد منهما شكلًا من أشكال التجاوز والتسامي”.

ضيّقت الرياضة المساحة المجتمعيّة الّتي يشغلها الدين تقليديًّا. على سبيل المثال، الاعتقاد السائد لدى الحكومات والعديد من الآباء بأنّ الرياضة يمكن أن تجعلك شخصًا أفضل يعني أنّ الرياضة كثيرًا ما تتولّى الدور الّذي كانت تؤدّيه الكنائس سابقًا في السعي إلى إنتاج بالغين ناضجين ومواطنين صالحين.

قدّمت تيسا جويل، وزيرة الدولة للثقافة والإعلام والرياضة في عام 2002 إستراتيجيّة الرياضة والنشاط البدنيّ الجديدة لحكومة حزب العمّال من خلال الادّعاء بأنّ زيادة المشاركة العامّة يمكن أن تقلّل الجريمة وتعزّز الاندماج الاجتماعيّ. وأضافت أنّ النجاح الرياضيّ الدوليّ يمكن أن يفيد الجميع في المملكة المتّحدة من خلال إنتاج “عامل الشعور بالسعادة”، وبعد عام أكّدت أنّ لندن ستقدّم عرضًا لاستضافة أولمبياد 2012.

كان على الرياضة أيضًا في خضمّ نموّها أن تتعامل مع الخلافات المنتظمة الّتي يبدو أنّها تهدّد بتقليل جاذبيّتها. في عام 2017، في وقت ينتشر فيه القلق العامّ بشأن تعاطي المخدّرات في ألعاب القوى وركوب الدرّاجات والمراهنة والعبث بالكرة في لعبة الكريكيت، والإيذاء المتعمّد للخصوم في كرة القدم والرگبيّ، والاعتداء الجسديّ والعقليّ على الرياضيّين الشباب في كرة القدم والجمباز، جاء نصّ العنوان الرئيسيّ في صحيفة الغارديان: “عامّة الناس يفقدون الثقة في الرياضات المليئة بالفضائح”. لكن حتّى ذلك الحين، وجد الاستطلاع المشار إليه أنّ 71٪ من البريطانيّين ما زالوا يعتقدون أنّ “الرياضة قوّة من أجل الخير”.

استجابت المنظّمات الدينيّة بطرق مختلفة لدور الرياضة في المجتمع المعاصر. يرى البعض، مثل الأسقف الحاليّ لديربي ليبي ليّن، أنّه يقدّم فرصًا للتبشير بالإنجيل، أي أنّه إذا كان الناس يذهبون للمسارح الرياضيّة، فيجب أن تكون الكنيسة هناك أيضًا. قالت ليّن لصحيفة تشيرش تايمز بعد تعيينها أسقفًا جديدًا للرياضة لكنيسة إنجلترا في عام 2019: “قد تكون الرياضة وسيلة لتنمية مملكة اللّه لصالح الكنيسة، فهي تشكّل ثقافتنا وهويّتنا وتماسكنا ورفاهيتنا وشعورنا بالذات وإحساسنا بالمكان في المجتمع. إذا كنّا مهتمّين بالحياة البشريّة بأكملها، فمن الضروريّ أن يكون للكنيسة صوت في [الرياضة].

كما نمّت حركة القساوسة الرياضيّة بشكل ملحوظ منذ التسعينيّات، لا سيّما في دوريّ كرة القدم والرگبيّ، حيث أصبحت الآن منصبًا معياريًّا في معظم الأندية الكبرى. كان هناك 162 قسّيسًا (كاهنًا/راهبًا/رجل دين) عاملًا في أولمبياد لندن عام 2012 ينتمون إلى خمس ديانات. يتمثّل دور القسّيس في تقديم الدعم الشخصيّ للأشخاص الّذين يعملون في مهنة صعبة، وكثير منهم جاءوا من مناطق بعيدة من العالم. في أوائل العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، سأل قسّيس نادي بولتون واندرارز لاعبي نادي كرة القدم عن دياناتهم، وقد شمل النادي لاعبين مسيحيّين ولادينيّين ومسلمين ويهود ورستفاريين[5].

وعلى الرغم من تنوّع الخلفيّات الدينيّة والثقافيّة واللغويّة للّاعبين في مختف الرياضيّة، إلّا أن تبني الفرق الرياضيّة المتزايد للقساوسة قد يعكس الاعتراف المتزايد بالخسائر العقليّة والجسديّة الّتي يمكن أن تتحمّلها رياضة النخبة.

كما أنّ انتشار بطولات الكريكيت الإسلاميّة وغيرها من المنظّمات الرياضيّة الإسلاميّة في بريطانيا هو في جزء منه استجابة للتهديدات والتحدّيات، بما في ذلك العنصريّة وانتشار ثقافة الشرب في بعض الألعاب الرياضيّة. يعكس التشكيل الأخير لاتّحاد الغولف الإسلاميّ حقيقة أنّه على الرغم من أنّ الاستبعاد الصريح الّذي واجهه لاعبو الغولف اليهود في الأوقات السابقة والّذي أصبح الآن غير قانونيّ، إلّا أنّ لاعبي الغولف المسلمين ما زالوا يشعرون بأنّهم غير مرحّب بهم في بعض نوادي الغولف في المملكة المتّحدة.

وتعدّ المنظّمات الرياضيّة في المملكة المتّحدة للنساء والفتيات المسلمات، مثل مؤسّسة الرياضة النسائيّة المسلمة ورابطة المسلمة الرياضيّة، استجابة ليس فقط للتحيّز والتمييز من قبل غير المسلمين، ولكن للإحباط الّذي قد يواجهنه من الرجال المسلمين. وجد تقرير لـ Sport England في عام 2015 أنّه بينما كان اللاعبون المسلمون أكثر نشاطًا في الرياضة من أولئك الّذين ينتمون إلى أيّ مجموعة دينيّة أو غير دينيّة أخرى، كانت نظيراتهم من الإناث أقلّ نشاطًا من النساء من أيّ مجموعة أخرى.

بالطبع، لطالما ساهمت الاختلافات الدينيّة في التوتّرات، وفي بعض الحالات، في العنف داخل وخارج الملعب، وأشهرها في بريطانيا من خلال التنافس التاريخيّ بين أكبر ناديي كرة قدم في غلاسكو، رينجرز وسلتيك. استقبل نيل لينون مدير فريق سلتيك واثنين من مشجّعي النادي البارزين في عام 2011 قنابل في طرود كانت تهدف لقتلهم أو تشويههم.

حدّد دنكان مورو، الأستاذ الّذي ترأّس مجموعة استشاريّة مستقلّة لمعالجة الطائفيّة في اسكتلندا ردًّا على هذه التوتّرات المتصاعدة، تحوّلا رائعًا في علاقة الدين بالرياضة: “في وقت يكون فيه الدين أقلّ أهمّيّة في المجتمع، يبدو الأمر كما لو أنّه أصبح جزءًا من هويّة كرة القدم في اسكتلندا. إنّ الطائفيّة الآن، بمعنى ما، طريقة للتصرّف وليست طريقة للاعتقاد”.

كانت الروح الإسلاميّة لفريق الكريكيت الباكستانيّ في أوائل العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين قويّة جدًّا لدرجة أنّ اللاعب المسيحيّ الوحيد، يوسف يوحنّا، اعتنق الإسلام. تساءل رئيس مجلس الكريكيت الباكستانيّ، نسيم أشرف، بصوت عال عمّا إذا كانت الأمور قد تجاوزت مداها، وقال: “لا شكّ في أنّ الإيمان الدينيّ عامل محفّز للّاعبين، فهو يربطهم ببعضهم”. لكنّه كان قلقًا أيضًا من ممارسة ضغوط لا داعي لها على اللاعبين الأقلّ تقوى.

قد يؤدّي استخدام الدين في المجتمعات الأكثر تعدّديّة وعلمانيّة لتوحيد الفريق معًا إلى نتائج عكسيّة. لكنّه ما يزال ذا أهمّيّة حيويّة للعديد من الرياضيّين والنساء. يجد الرياضيّون الّذين يحرّكهم الإيمان في قراءتهم للكتاب المقدّس أو القرآن، أو في علاقتهم الشخصيّة مع المسيح، القوّة لمواجهة التجارب والمحن الّتي تمارسها رياضة النخبة، بما في ذلك انضباط التدريب والتغلّب على الألم الجسديّ، ولتحمل مرارة الهزيمة.

يعدّ جوناثان إدواردز صاحب الرقم القياسيّ العالميّ في الوثب الثلاثيّ من أشهر الأمثلة على كيفيّة استفادة رياضيّ بارز من دينه، وقد تحدّث كثيرًا عن معتقداته المسيحيّة الإنجيليّة خلال أيّام المنافسة (تخلّى إدواردز لاحقًا عن إيمانه بعد تقاعده، مدّعيًا أنّه كان بمثابة أقوى أنواع الدعم النفس الرياضيّ).

بالإضافة إلى تعزيز دافعه للنجاح ومساعدته على التعافي من الهزيمة، شعر إدواردز أيضًا بواجب التحدّث عن إيمانه، أو كما قال كاتب سيرته: “شعر جوناثان أنّه كان يستجيب لنداء ليكون مبشّرًا وشاهدًا لله في حذاء جريه”.

كثيرًا ما يرى الرياضيّون من الأقلّيّات الدينيّة أنفسهم رموزًا وأبطالًا لمجتمعاتهم. وهكذا، دخل جاك “كيد” بيرج، بطل العالم في الوزن الخفيف للملاكمة في الثلاثينيّات من القرن الماضي، الحلبة بشال صلاة حول كتفيه، ويرتدي نجمة داود خلال كلّ قتال. كان لاعب الكريكيت الإنجليزيّ معيّن عليّ بطلًا للعديد من المسلمين في الآونة الأخيرة، لكنّه أثار غضب صحفيّ في الديلي تلغراف قال له: “أنت تلعب مع إنجلترا يا معيّن عليّ، وليس من أجل دينك”.

سلّط الضوء أيضًا على موضوع الفشل في رياضة النخبة ودور الإيمان في التعامل معه عبر مسيرة اللاعبة البريطانيّة كريستين أوهوروغو الّتي فازت بالميداليّة الذهبيّة عن سباق الركض لـ 400 متر في أولمبياد 2008 بعد أن حظرت في وقت سابق لمدّة عام بسبب تخلّفها المزعوم عن اختبار المخدّرات: “من بين الانتصارات الرياضيّة، كان على كريستين أن تتعامل مع العديد من مشاكل الإصابة، وإهانة عدم الأهليّة، والادّعاءات الكاذبة القاسية في الصحافة الشعبيّة. تقول كريستين أنّ إيمانها القويّ باللّه هو الّذي دعمها”.

كريستين أوهوروغو (Getty)

وزعم نجم اتّحاد الرگبيّ الإنجليزيّ جوني ويلكينسون أنّه بعد 24 ساعة من هدف الدقيقة الأخيرة، والّذي أكسبهم كأس العالم عام 2003، غمره “شعور قويّ بالخيبة”. وأوضح لاحقًا في مقابلة مع صحيفة الغارديان أنّه وجد الحلّ من خلال تحوّله إلى البوذيّة: “إنّها فلسفة وأسلوب حياة يتردّد صداها معي. أنا أتّفق مع الكثير من المشاعر الكامنة وراء ذلك. أنا أستمتع بالتأثير التحريريّ الّذي أحدثه عليّ للعودة إلى اللعبة بطريقة مجزية للغاية لأنّك تستمتع بلحظة التواجد في الملعب. في الماضي، كنت في الأساس أدخل غرفة تغيير الملابس، وأمسح جبيني وأفكّر: “الحمد للّه، لقد انتهى الأمر”.

بينما احتلّت الرياضة مكانًا في مجتمع ملأه الدين ذات يوم للكثيرين، فإنّ الأسئلة الّتي تسعى الأديان إلى الإجابة عليها لم تختف، ليس لنخبة الرياضيّين على الأقلّ. بالنسبة لهم، تتطلّب مهنة الرياضة الكثير من المتطلّبات، ويجد عدد كبير منهم القوّة والإلهام من خلال إيمانهم. بالطبع، ينحدر العديد من المهنيّين الرياضيّين المقيمين في المملكة المتّحدة اليوم من مناطق أقلّ علمانيّة في العالم، في حين أنّ آخرين هم من أبناء المهاجرين واللاجئين. وجد الإحصاء السكّانيّ لعام 2021 أنّ كلًّا من العدد والنسبة المطلقة للهندوس والسيخ والبوذيّين وأولئك الّذين يختارون “ديانات أخرى” قد زادوا جميعًا في إنجلترا وويلز خلال العقد الماضي.

لذا نعيش نحن الآن مع هذا التناقض. في حين أزاحت الرياضة الدين مكان مكانه في المجتمع الأوسع، إلّا أنّه يبقى جزءًا بارزًا من رياضة النخبة، حيث وجدت عدد من الدراسات حول العالم أنّ الرياضيّين يميلون إلى أن يكونوا أكثر تديّنًا من غير الرياضيّين. تدرك كنيسة إنجلترا هذا التناقض، وقد استجابت بإطلاق مشروع وطنيّ للرياضة والرفاهية، تمّ تجريبه في ثمانية من أبرشيّاتها. على الرغم من إطلاقها قبل الجائحة مباشرة، فقد تضمّنت المبادرات تكييف مباني الكنيسة لجلسات كرة القدم وكرة الشبكة وللحفاظ على اللياقة، وتشكيل أندية رياضيّة جديدة تستهدف بشكل خاصّ غير مرتادي الكنيسة، ونوادي ما بعد المدرسة ومخيّمات العطلات الصيفيّة الّتي تقدّم مزيجًا من الرياضة والدين.

صارت الأهداف التبشيريّة بالإنجيل أكثر صراحة ممّا كانت عليه في العصر الفيكتوريّ للمسيحيّة العضليّة. يدرك العاملون في الكنائس الرياضيّة التحدّيات الّتي يواجهونها جيّدًا. في حين أنّه في العصور الفيكتوريّة اللاحقة والنصف الأوّل من القرن العشرين، كان لدى العديد من الناس اتّصال فضفاض بالكنيسة، فإنّ الغالبيّة الآن ليس لديهم أيّ صلة على الإطلاق.

يظهر المبشّرون الدينيّون اليوم إيمانًا قويًّا بالرياضة، ويعتقدون أنّه يمكن أن يساعد على بناء روابط جديدة، خاصّة بين الأجيال الشابّة. كما يخلّص مشروع التوعية الخاصّ بكنيسة إنجلترا: “تحمل الرياضة مهمّة تبشيريّة ضخمة… إذا أردنا أن نجد البقعة المناسبة [بين الرياضة والدين]، فيمكن أن يساهم ذلك في نموّ الكنيسة”.

** نُشرت هذه المادّة في موقع “كونفيرزيشن”.


إحالات:

[1] إحدى المؤسّسات التعليميّة الدينيّة المسيحيّة الّتي تعمل على تعليم الأطفال في أيّام الآحاد، ويكون التعليم مبنياً على الكتاب المقدّس.

[2] المسيحيّة العضليّة هي حركة فلسفيّة نشأت في إنجلترا في منتصف القرن التاسع عشر، وتتميّز بالإيمان بالواجب الوطنيّ، والانضباط، والتضحية بالنفس، والذكورة، والجمال الأخلاقيّ والجسديّ للألعاب الرياضيّة. وتعني أيضًا بالالتزام المسيحيّ في التقوى واللياقة البدنيّة، والمستندة على العهد الجديد، والّتي نادت إلى التقوى والصحّة البدنيّة.

[3] مجموعة عرقيّة تمثّل مجمل ساكني منطقة ميلانيزيا، في منطقة واسعة من غينيا الجديدة إلى أقصى شرق جزر فانواتو وفيجي.

[4] مجموعة من المجموعات العرقيّة، والّتي تعيش في جنوب قارّة أفريقيا، ويتكوّنون من 300-600 مجموعة عرقيّة ويتكلّمون لغات البانتو وينتشرون من البحيرات العظمى الأفريقية في الشمال إلى سواحل رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا.

[5] دين ظهر في جاميكا في ثلاثينيّات القرن العشرين، ويصنّف على أنّه حركة اجتماعيّة ودينيّة في آن واحد.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *